القواعد الفقهية في تطبيقات الزكاة

إن هذه القاعدة الفقهية المعاصرة تقدم مدخلا جديدا لدراسة مسألة ( زكاة الديون ) برمتها ، حيث تجدد التأصيل للمسألة من منطلق تعليل الزكاة بوصف ( الغنى ) الذي اعتبره الشرع ، كما تستبعد وصف ( الدين ) الذي أهمله الشرع في المقابل ، وبالتالي فالزكاة لا تتعلق بالدين ذاته ؛ ولا باعتبار أوصاف طرفيه ؛ أعني الدائن أو المدين ، كلا ؛ وإنما يتعلق وجوب الزكاة من عدمها بما إذا كان أي من الدائن أو المدين غنيا في اصطلاح الشرع من عدمه .

ولإيضاح ذلك نقول : إذا كان ( الدائن ) غنيا بمال مدخر لديه طيلة العام الماضي فإن الزكاة تجب عليه في المال الذي هو فيه غني بنظر الشرع ، ولا نلتفت حينئذ إلى الدين الذي بذله لغيره ؛ لأن ملكيته عليه صارت ملكية ناقصة وليست تامة ، ولأن المال ليس بيده ولا هو تحت تصرفه المطلق ؛ فكيف يغرم ما لم يغنم ؟! ، وهكذا حكم زكاة ( المدين ) ؛ فإن وصفه كمدين لا يتعلق به حكم الزكاة بالشرع ، كلا ؛ وإنما تجب عليه الزكاة أو لا تجب ؛ باعتبار ما إذا كان غنيا بمعيار الشرع أم لا ، ولا عبرة حينئذ بكون ذمته مشغولة بالدين لدائنه أو لغيره لأن العبرة بالواقع المادي الملموس عنده ، وهو كونه قد ادخر مالا أو استثمره لمدة سنة كاملة وهو غني به .

وعلى هذا فإنه متى تحقق وصف الغنى لدى أي من الدائن أو المدين فإن الزكاة تجب عليه في أمواله التي هو بها غني وهو عنها مستغنٍ طيلة الحول الماضي ، ولا ريب إن تأسيس مسألة ( زكاة الديون ) على علة الغنى يتفق مع صريح نصوص الكتاب والسنة ، وهو مسلك تأصيلي أوثق بالشرع وأصلح وأجدى وأعدل ـ في تطبيقات الواقع ـ من مجرد اعتبار وصف الدين ذاته ، أو على أحوال طرفيه ؛ الدائن والمدين ، وتبقى العبرة في الزكاة بوصف الغنى لا بوصف الدين .

الوقف هو ( حبس أصل المال والتصدق بمنافعه أو بعوائده ) ، فالوقف يمثل ذمة مالية وقانونية مستقلة عن شخصية صاحبه أو شخصية الناظر عليه ، وأما المنظمة غير الربحية فهي التي لا تهدف من نشاطها وتشغيلها إلى تحقيق الربح لصالح أشخاص مالكيها ، وإن كانت تسعى إلى تعظيم مواردها الذاتية بالتربح من عملياتها وتكثير أموالها وتعظيم أصولها وموجوداتها لصالح المؤسسة نفسها ؛ ولتمكينها من أداء أغراضها وتسيير أعمالها بكفاءة مستدامة ، وبهذا تعلم أن المنظمة غير الربحية هي منظمة تقصد النماء والربح وتسعى إلى تحقيقه بكل الوسائل التي يسمح بها القانون ، إلا أن الربح ليس مقصودا لأشخاص مؤسسيها كما في المنظمات والشركات الربحية المعروفة ، فإذا كانت نتائج أعمال المنظمة الربحية يعبر عنها محاسبيا بمصطلح ( الربح / الخسارة ) ، فإن نتائج أعمال المنظمة غير الربحية يعبر عنها بمصطلح ( الفائض / العجز ) ، وعلى هذا فقد تنتج المنظمة غير الربحية منتجات تصنعها أو تعيد تصنيعها مقابل ربح مرتفع ، وقد تتقاضى عمولة أو أجرة نظير قيامها بوظيفة الوساطة الخيرية أو التطوعية ، وهي إنما تسعى إلى الربح لاستدامة نشاطها وتسيير أعمالها وتطوير خدماتها .

وتتصدى المنظمات غير الربحية لمهام ضرورية في المجتمعات ـ بصفة عامة ـ ، ومن تطبيقاتها المعاصرة المؤسسات الخيرية للزكاة والصدقات والقرض الحسن ونحوها ؛ وكذلك جميع الكيانات الوقفية ـ عقارا كان أو منظمة وقفية ـ ؛ وجميع الأنظمة التكافلية ـ ومنها صناديق التكافل المحدودة وحسابات المشتركين في التأمين التكافلي ـ ؛ والجمعيات التعاونية الحكومية أو الأهلية الخاصة ، بل وحتى الأندية الثقافية والرياضية والجمعيات المهنية ، فهذه كلها أشكال قانونية معاصرة للمنظمات غير الربحية ، وغالبا ما يتدخل القانون المعاصر ـ بحسب نضجه ـ في تنظيم أعمالها وضبط عملياتها .

إن هذه القاعدة الفقهية المعاصرة تؤسس لتأصيل جديد في أحكام زكاة الأوقاف والمنظمات غير الربحية ، حيث تقرر أن ( زكاة الأوقاف والمنظمات غير الربحية تدور مع وصف الغنى وجودا وعدما ) ، فقد تجب الزكاة على شخصية الوقف لأنه متصف بالغنى الموجب للزكاة في أمواله ، بينما قد لا تجب الزكاة على شخصية وقف أخرى بسبب عدم تحقق وصف الغنى في حقه ، وكذلك الشأن بالنسبة للمنظمات غير الربحية ، فقد تجب الزكاة على بعضها ولا تجب على بعضها الآخر بسبب أن الأولى اتصفت بالغنى بينما الأخرى تخلف عنها هذا الوصف الذي هو علة وجوب الزكاة في الأموال ، وبهذا تعلم أن الضابط لذلك يكمن في تحقق وصف ( الغنى ) بشروطه الأربعة .وبذلك يتبين أن ما يشتهر بشأن إطلاق نفي الزكاة عن أموال الأوقاف والمنظمات غير الربحية أن ذلك من قبيل القصور وعدم الدقة في تحرى مقصود الشرع ومراده ، كما أن إطلاق وجوب الزكاة في أموالها خطأ آخر يقابل الأول ، فثبت بذلك أن كلا الإطلاقين مجازفة وخطأ ، بل هو تجاوز لحدود الشرع الحنيف في نصوصه الخالدة ومقاصده المحكمة ، وإنما الواجب التفصيل بحسب اتصاف شخصية الوقف والمنظمة غير الربحية بوصف ( الغنى ) من عدمه .

الدولة شخصية اعتبارية حسبما تنص عليه دساتير الدول في العالم ، فإذا تحقق وصف الغنى الذي هو علة وجوب الزكاة في أملاك الدولة فإن عمومات نصوص الشرع الحنيف تعمها بإيجاب الزكاة فيها ، بل هي أولى بالوجوب بسبب كبر حجمها وعمق أثرها على المجتمع ، فإذا كان مال الدولة مُبَاحاً مَملُوكاً مِلكاً تَامّاً لها ، وقد بلغ نِصَاباً حالَ الحَولُ عليه ؛ فإن الزكاة تجب في هذا المال العام حينئذ ، لأن عمومات النصوص الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية توجب أخذ الزكاة ممن كان غنيا به ؛ بغض النظر عن طبيعة شخصيته القانونية ؛ طبيعية عادية أو اعتبارية معنوية ، ومن ادعى إخراج هذا الفرد من أفراد العموم فعليه الدليل ، وإلا فإن العموم يبقى على عمومه وشموله واستغراقه لأفراده ، وعلى هذا فإن مالية الدولة إذا اتصفت بوصف ( الغنى ) فقد وجب النظر في أموالها لغرض التحقق من وجوب الزكاة فيها من عدمه ؛ وذلك بحسب ما تقتضيه الأصول الثمانية للأموال في باب الزكاة ، وهي ( النقد ، وعروض التجارة ، والمستغلات ، والثروة الزراعية من الزروع والثمار ، والثروة الحيوانية من الإبل والبقر والغنم ، وكذلك الركاز ) .

فإن قيل : كيف توجبون الزكاة في مال الدولة ، ومال الدولة شائع مشترك لا يملكه أحد ؟

فالجواب : إن الدولة ذات شخصية اعتبارية مستقلة ، وهي ذات ملكية مستقلة وتامة على أموالها التي تخضع لسيادتها ، والزعم بأن مال الدولة لا يملكه أحد خطأ فادح ومصادمة شنيعة لبدهيات الدساتير ومنصوصاتها في مقدماتها معنى ونصا ، فلا يصح تأسيس حكم شرعي أو فقهي على تصور فاسد في الواقع ، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره .إن هذه القاعدة الفقهية المعاصرة تنظم العلاقة بين فريضة الزكاة وموجودات المال العام للدولة في العصر الحديث ، فتقرر أن مالية الدولة مثلها كمثل مالية الفرد أو مالية الشركة في أن لكل منها شخصية قانونية مستقلة ، وأن الزكاة في المال العام تعتمد على مدى تحقق وصف ( الغنى ) فيه ؛ الذي هو علة وجوب الزكاة في الإسلام ، فكل دولة تملك فائضا ماليا مدخرا ـ بشروط الغنى الأربعة ـ فإن الزكاة تجب في أموالها ، ومعنى ذلك : إذا وجد وصف الغنى في المال العام فقد تبعه وجوب الزكاة فيه ، وأما إذا انتفى وصف الغنى عن المال العام فلا زكاة فيه حينئذ ، فنصل من ذلك إلى أنه لا يصح إيجاب الزكاة في المال العام مطلقا ، كما لا يصح في المقابل نفي الزكاة عن المال العام مطلقا ، فكلا الإطلاقين خطأ ، والصحيح التفصيل على أساس تحقق شرط الغنى في المال العام من عدمه ، وهو التفصيل التجديدي الذي جاءت به هذه القاعدة ونَبَّهَتْ عليه الفقه الإسلامي المعاصر .

إن هذه القاعدة الفقهية المعاصرة تقرر حقيقة شرعية طالما اضطربت فيها أنظار الفقهاء بسبب اختلاف أشكال الشركات وأنواعها وأحوالها طبقا لتنوع الأعراف والبيئات قديما وحديثا ، فكما أن الشركة مخاطبة بوجوب اجتناب الكبائر والمحرمات كالربا والميسر والغرر ، فإنها أيضا مخاطبة بالشرع بامتثال الأوامر المالية كالزكاة نحوها ، فتقرر القاعدة الفقهية أن المكلف والمخاطب بإخراج الزكاة هو ذات الشركة لأنها المالكة أصالة لأموالها ملكا تاما ، أي أن الزكاة تجب على الشركة بشخصيتها الاعتبارية ، والتي تنشأ على أساس اختلاط الأموال وشيوعها ( الخلطة والشيوع ) ؛ بحيث تنصهر جميع أموال الشركاء في شكل حصص معلومة تكون شخصية معنوية جديدة اسمها ( الشركة ) ، فإذا تحقق وصف ( الغنى ) في أموال الشركة فإن الزكاة تجب عليها بوصفها مالكا للأموال ملكا تاما . وأما أشخاص الشركاء أنفسهم فإنهم لا زكاة عليهم في حصصهم التي يملكونها في الشركة ، والسبب أن ملكيتهم على الحصص أصبحت ناقصة وليست تامة ، لأن صاحب التصرف المطلق بالمال هو الشركة نفسها ، وأما الشركاء فهم مالكون للحقوق التي لهم على الشركة في المستقبل ، ومعلوم أن من شروط وجوب الزكاة في المال بالإجماع ؛ أن يكون المال مملوكا لدى صاحبه ملكا تاما بمطلق التصرفات ، فإذا انتفى هذا الشرط فقد انتفى وجوب الزكاة في المال ، لكن لو تحقق الربح فعلا وقبضه الشريك فإنه يزكيه على أنه مال مستفاد يضمه إلى سائر أمواله التي هو بها غني بحسب حوله هو ، وأما حصته في الشركة فملكيتها التامة بيد الشخصية الاعتبارية ، بينما ملكيته لها ناقصة ، والنتيجة : أنه لا زكاة على الشريك في حصته التي لا يملك التصرف المطلق فيها ، فظهر بذلك معنى القاعدة ( زكاة الشركات تجب عليها ؛ لا على الشركاء ) . ومن أدلة تكليف نفس شخصية الشركة بالزكاة أن الشركة مكلفة شرعا بالامتناع عن عقود الربا وسائر المحرمات المالية فكذلك هي مكلفة شرعا بالالتزام بسائر الأوامر المالية ، وعلى رأسها وجوب إخراج الزكاة الواجبة على ممتلكاتها ، وعليه فإن امتناع الشركة عن زكاة ممتلكاتها الشخصية ينطوي على تعطيل كلي لمسؤولياتها الشرعية من حيث أصل التكليف الشرعي ، وأما مبدأ إحالة الزكاة لاختيار الشركاء - رغم أن ملكياتهم ناقصة - فهذا أمر مرفوض شرعا ومحظور حكما ، لأنه يجعل الزكاة خاضعة لآراء الشركاء وأمزجتهم الشخصية وبحسب إرادتهم المطلقة ، ويؤكد ذلك في عرف الواقع أن التطبيق الضريبي في القوانين المعاصرة يلزم الشركات بأداء الفروض المالية المكلفة بها ، وذلك دونما اعتبار لأشخاص الشركاء أنفسهم قبلوا أم لم يقبلوا . جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي ما نصه : ( تخرج إدارة الشركة زكاة الأسهم كما يخرج الشخص الطبيعي زكاة أمواله ، بمعنى أن تعتبر جميع أموال المساهمين بمثابة أموال شخص واحد ، وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من حيث نوع المال الذي تجب فيه الزكاة ، ومن حيث النصاب ، ومن حيث المقدار الذي يؤخذ ، وغير ذلك مما يراعى في زكاة الشخص الطبيعي ، وذلك أخذاً بمبدأ الخلطة عند من عممه من الفقهاء في جميع الأموال ) ، وهو المشهور من مذهب الشافعية . ولنمثل بالمثال التالي : شخص اشترك مع آخرين في إنشاء شركة ، وكان يملك فيها حصة معلومة مشاعة ، فهل تجب الزكاة على شخصية الشركة أم تجب على الشريك نفسه ؟ فإذا طبقنا القاعدة وجدناها توجب الزكاة على شخصية الشركة فقط ، لأن الشركة هي التي تملك المال ملكا تاما وتتصرف فيه تبعا لذلك ( ملك الرقبة واليد حسب تعبير الفقهاء ) ، بينما الشريك ملكيته على التصرف في أمواله مقيدة ومشروطة وضعيفة ، لأن شخصية الشركة حالت بين الشريك وبين تصرفه في حصته ، وبذلك تصبح القاعدة الفقهية ( زكاة الشركة تجب عليها لا على الشركاء ) ، والسبب أن ملكيات الشركاء ناقصة بينما ملكية الشركة على أموالها تامة ، وهكذا يمكننا إجراء هذا التأصيل الفقهي والقانوني المنضبط على كل علاقة استثمارية مهما كان اسمها أو شكلها ومهما كان العقد الذي ينظمها ، سواء سميت أداة الاستثمار باسم ( صك استثمار ) أو ( صندوق استثمار ) أو ( محفظة استثمارية ) أو ( وديعة استثمارية ) .. الخ .

هذه القاعدة الفقهية تؤصل لمعالجة زكاة ( الشركات الخفية ) ، حيث تديرها على شرط ( الملك التام ) الذي هو محل إجماع بين العلماء قديما وحديثا ، فإن الشركات نوعان من حيث الظهور والخفاء ، أما الشركات الظاهرة فهي التي يبرز فيها اجتماع أصحابها في العلن ، وطبقا لمقتضيات الإشهار في العرف والقانون ، وهي الشركات التي تنظمها قوانين الشركات في العالم ، وأما ( الشركات الخفية ) فهي تلك الشركات التي يقصد أطرافها الاشتراك في مخاطرة الربح ( الخطر المالي والاستثماري ) ، ولكن في المقابل لا يرغبون بأن يكونوا ظاهرين في العلن أمام منصة الإشهار القانوني ، فهم ينأون بأنفسهم عن ( خطر الظهور القانوني ) ، وبالتالي هي شركات تهدف إلى الربح المشترك ، ولكن لا يتم إشهارها أو تسجيلها وإعلانها في القانون ، وإنما قد يتم توثيقها بعقود مدنية خاصة بين الأطراف المتشاركين ولكنها غير مشهرة في العادة أمام الدولة والقانون ، وربما قامت الشركة الخفية من غير إبرام عقود كتابية أصلا ، والحق أن هذه شركات حقيقية قامت على أساس قانوني ومالي مستقل ومعتبر ، إلا أن هذا العقد خفي ، بمعنى أنه لم يلتزم بقواعد الإشهار والتسجيل القانوني الرسمي والعلني أمام الدولة وطبقا لشروط وضوابط القانون .فهذه القاعدة تدير زكاة هذه الشركات الخفية على شرط الملك التام وجودا وعدما ، فإذا كان التطبيق الفعلي للشركة الخفية يعتمد نموذج عمل الشركة ذات الشخصية الاعتبارية المستقلة ولها ذمة مالية وقانونية مستقلة فإن الزكاة تجب حينئذ على ذات الشركة الخفية ، وزكاتها حينئذ تدور مع وصف الغنى وجودا وعدما ، ويترتب على ذلك أنه لا يكلف الشريك نفسه بأداء الزكاة شرعا ، لأن ملكيته على الأموال ناقصة وليست تام ، لكن إذا كانت الشركة الخفية تعتمد على عقد ( الأجر مقابل عمل ) فإن الملك التام يكون بيد مالك المال الأصلي ، وبالتالي تجب عليه الزكاة حينئذ تبعا لتمام ملكه على أمواله .وللشركات الخفية أمثلة وتطبيقات متعددة في واقع قوانين الشركات المعاصرة ، وكذلك في الفقه الفقه الإسلامي ، وأبرزها ما يلي :

1-زكاة شركة المحاصة في قانون الشركات :لقد نصت ( المادة 2 ) من قانون الشركات التجارية الكويتي رقم 15 لسنة 1960 وتعديلاته على التالي : ( فيما عدا شركة المحاصة ، تتمتع جميع الشركات التجارية بالشخصية المعنوية ) ، فالقانون أسبغ وصف الشخصية الاعتبارية على كل شركة يتم إنشاؤها بمقتضاه ، واستثنى شركة المحاصة فسلبها هذا الوصف ، والسبب أن شركة المحاصة بحكم طبيعتها هي شركة قصد أصحابها أن تكون خفية وغير ظاهرة أمام القانون ، فراعى القانون خفاءها واحتمالية اغترار الناس بها فمنع اعتبار شخصيتها المستقلة ابتداء .وقد جاء إيضاح ذلك صريحا في المذكرة التفسيرية للقانون بما نصه : ( تتميز شركة المحاصة بأنها شركة خفية ، فهي شركة فيما بين الشركاء وحدهم ، وليست شركة تجاه الغير الذي يتعامل مع الشركاء ، فإذا اتفق شخصان أو أكثر على شراء صفقة معينة لبيعها بقصد اقتسام الربح فيما بينهم فإن الشركة تكون شركة محاصة ، إذا تم الاتفاق على أن كل شريك يتعامل مع الغير باسمه هو لا باسم الشركة ، فيقوم أحد الشركاء بشراء الصفقة باسمه هو ، ويلتزم وحده نحو البائع ، يقوم هذا الشريك أو شريك غيره ببيع الصفقة الى الغير ، ويكون البيع باسم الشريك البائع لا باسم الشركة ، ويلتزم هذا الشريك وحده نحو المشتري ، فاذا حققت الشركة أرباحا اقتسمها الشركاء فيما بينهم بالنسبة المتفق عليها ، واذا نجم عن الشركة خسائر ساهم فيها الشركاء كل بقدر حصته في الخسارة ، ففي اقتسام الأرباح والخسائر - أي في العلاقة فيما بين الشركاء - تظهر الشركة ، أما في التعامل مع الغير فليس للشركة وجود ، وانما يتعامل الشريك مع الغير باسمه الشخصي ، فشركة المحاصة شركة لا تدوم في العادة وقتا طويلا ، وليست لها شخصية معنوية ، ولا تخضع للقيد في السجل التجاري ، ولا يجوز لها أن تصدر أسهما او سندات قابلة للتداول ، وانما يجوز استثناء للغير أن يتمسك بعقد الشركة اذا تعاملت معه الشركة بهذه الصفة ) .

2-زكاة شركة المضاربة في الفقه الإسلامي :عقد المضاربة : شركة في الربح ، وصورتها : أن يقدم فيها رب المالَ ( أمواله ) بينما يقدم الطرفُ الآخرُ الذي هو العامل ( العملَ والإدارة ) ، والصحيح أن ( زكاة المضاربة تجب عليها لا على أطرافها ) ، وعلى هذا يتخرج ما ظاهره الخلاف بين الفقهاء ، فمن اعتبرها شركة حقيقية ـ وهو الصحيح ـ ألزمها الزكاة على ذات شخصيتها الاعتبارية ، بدليل توافر الأساسين القانوني والمالي للنشاط ، وان اختلفت أجناس الحصص في الشركة ما بين ( مال و عمل ) ، وأما من منع كونها شركة بالمعنى الاصطلاحي المعروف فقد جعله عقد شركة في الربح فقط ، وإن كانت المضاربة في أصلها تشبه المعاوضة على ثمن معلوم النسبة ولكنه مجهول المقدار ، لكن يلاحظ أن الاتجاهين متفقان على أن الزكاة إنما تكون بعد إتمام مرحلة تقييم الموجودات ( التنضيض ) وظهور النتائج المالية الدورية لعقد المضاربة بعد انتهاء دورته المالية ، وهذا يؤكد ما قدمناه من أن ( زكاة المضاربة تجب عليها لا على أطرافها ) .

الاستثمار هو : كل مال تقصد تنميته وتعظيم منافعه عن طريق الإذن بتصرف الغير فيه ، ذلك أن الاستثمار إما أن يكون بواسطة المالك نفسه أو بواسطة غيره ، فإذا كان استثمار الأصل بواسطة مالكه نفسه فهذا يكون إما بطريق التجارة أو بطريق الاستغلال والإجارة أو بطريق تعظيم بنية الأصل ذاته لكي تعظم منافعه وتزداد إيراداته وثمرته ، لكن إذا لجأ الشخص إلى شخص آخر غيره فطلب منه تثمير أمواله وتنميتها فهذا هو الذي يطلق عليه في العرف المعاصر مصطلح ( الاستثمار ) ، وقد يكون هذا المكلف بالاستثمار شخصا طبيعيا كسائر الأفراد العاديين ، أو شخصية اعتبارية ( شخص معنوي ) ، مثل : البنوك والشركات وهيئات الاستثمار ، وفي حالة تكليف الغير باستثمار المال لا بد أن تنشأ علاقة عقدية تضبط الحقوق والالتزامات بين الطرفين وتبين قواعدها وأحكامها ، فقد يكون العقد المنظم للعلاقة بين الطرفين عقد شركة أو عقد مضاربة أو عقد وكالة أو حتى عقد إجارة ونحوها ، وجميعها آليات عقدية ينظمها الفقه الإسلامي وقواعد القانون المدني .واعلم أن لعملية الاستثمار عدة أشكال تعرف بأدوات الاستثمار ، وهي تختلف من حيث آلياتها التنفيذية أو من حيث العقد أو النظام العقدي الذي تستند إليه ، وقد يصطلح العرف على أن يطلق على أداة الاستثمار اسم ( وديعة استثمارية ) أو ( صندوق استثماري ) أو ( صك استثماري ) أو ( محفظة استثمارية ) أو بأية اصطلاحات وألقاب أخرى يخترعها واقع الاستثمار المعاصر ، إلا أن جميع تلك الأوعية الاستثمارية تخضع للقاعدة الفقهية ( زكاة الاستثمار تتبع الملك التام ) ، فهذه القاعدة الفقهية تضع ضابطا فقهيا دقيقا وحاسما وجامعا لحكم الزكاة بالنسبة لجميع أوعية وأدوات الاستثمار المعروفة قديما أو حديثا أو مستقبلا .والسؤال المهم هنا : من الذي تجب عليه الزكاة في أوعية الاستثمار المعاصرة ؟ ، والجواب : إن هذه المسألة تعتبر من مواقع الاضطراب في الفقه المعاصر ، والضابط الحاسم فيها جميعا ـ مهما اختلفت أسماء تلك الأوعية الاستثمارية وصورها وآلياتها العقدية ـ تلخصه القاعدة الفقهية المعاصرة : ( زكاة وعاء الاستثمار تتبع الملك التام ) ، والملك التام يسميه الفقهاء ( ملك الرقبة واليد معا ) ، وقد يستبدلون ( اليد ) بقولهم ( التصرف ) أو ( المنفعة ) .ومعنى القاعدة : أن الزكاة إنما تجب على من يملك التصرف في مال الاستثمار ملكا تاما ، فمن ملك المال ملكا تاما فهو المخاطب بوجوب أداء الزكاة ، وهذا الشرط مجمع عليه بين الفقهاء قديما وحديثا ، وفي المقابل فإن الزكاة لا تجب في حق من يملك المال ملكا ناقصا في هذه العلاقة الاستثمارية ، وبهذا يتبين بوضوح أنه مهما اختلفت أدوات الاستثمار المعاصرة في أسمائها وفي أشكالها وفي آلياتها فإن الضابط الحاكم لها جميعا من حيث زكاتها هو قاعدة ( زكاة الاستثمار تتبع الملك التام ) .والتطبيق العملي للقاعدة : أننا لا نلتفت إلى شكل الوعاء الاستثماري ؛ لا من حيث اسمه ولا صفاته ولا عوارضه ؛ وإنما نسلط النظر في الزكاة على تحقق معيار ( الملكية التامة ) في الوعاء الاستثماري ، فإن من يملك المال ملكية تامة هو الذي تجب عليه الزكاة فيه ، فإذا كان الوعاء الاستثماري له شخصية اعتبارية مستقلة ؛ وهو الذي يملك المال المستثمر ملكية تامة فإن الزكاة تجب على شخصية الوعاء الاستثماري ؛ فيتعين على إدارته أداء فريضة الزكاة وافية وكاملة بلا نقص أو إهمال ، وفي المقابل فإنه لا تجب الزكاة على المستثمرين في أموالهم التي أودعوها بقصد الاستثمار في هذا الوعاء الاستثماري ، والسبب أن ملكية المستثمرين أصبحت ناقصة وقاصرة وليست تامة ، وتطبيق هذا الضابط من الناحية العملية أن يقال : هل يملك المستثمر سلطة التصرف المطلق بالمال أم أنه يحتاج إلى استئذان رسمي قبل تحصيل أمواله والتصرف فيها ؟

والخلاصة : إن الزكاة في أوعية الاستثمار إنما تجب على من ملك مال الاستثمار ملكا تاما ، فإذا تحقق وصف الغنى في المال بشروطه الأربعة وهي ( إباحة المال ، الملك التام ، بلوغ النصاب ، حولان الحول ) فإن الزكاة تكون واجبة حينئذ على من ملك المال ، وسواء تحقق هذا الوصف في حق صاحب المال الأصلي بأن كان هو المالك التام للتصرف بالمال فإن الزكاة تجب عليه حينئذ ، لكن لو كان الملك التام بيد المكلف بالاستثمار – فردا أو شركة أو بنكا – فإن الزكاة تجب عليه حينئذ .

الأصل في محافظ الاستثمار أنها تنعقد على أساس عقدي الوكالة أو المضاربة ، حيث تنتقل الأموال من ( المستثمِر ) مالكها الأصلي إلى ملكية ( الجهة المستثمِرة ) التي هي تملك التصرف بأموال المحفظة ، وحينئذ يثبت الملك التام لصالح جهة الاستثمار كما هو معلوم في الواقع العملي ، بينما تصبح ملكية ( المستثمر ) على أمواله في المحفظة ناقصة ومقيدة وليست تامة ، بدليل أنه لو أن المستثمِر طالب بأمواله المستثمَرة في السوق لقيل له : انتظر حتى نستوفي أموالك ونستردها من مجالات الاستثمار التي دخلنا فيها نيابة عنك وبعلمك وإقرارك ، ثم نتفحص ملاءتنا المالية ومخاطرنا الاستثمارية نحو الغير من المضاربين الآخرين ، وبعدها نسلمك أموالك ، وهو يشبه ما يعرف في الفقه الإسلامي بمصطلح ( التنضيض ) في عقود المضاربة ونحوها ، فتبين بذلك أن محافظ الاستثمار الأصل فيها أن ملكها بيد من يديرها فتجب عليه زكاتها ، بينما صاحب المال الأصلي ( الـمُستَثمِر ) يكون ملكه عليها ناقصا لا تاما ، وبالتالي فلا زكاة عليه في أمواله المستثمرة في المحفظة الاستثمارية .ورغم ما قررناه من أن الأصل بمحافظ الاستثمار أن ملكها ناقص بالنسبة لأرباب الأموال فيها ، إلا أنه ثمت نوع من المحافظ الاستثمارية في الواقع العملي ما يكون ملكه تام بيد صاحبه الذي هو صاحب المال الأصلي ، وهي المحافظ التي تنعقد على أساس ( عقد الإجارة ) ، حيث تتولى جهة الاستثمار إدارة المحفظة بصفتها أجير ، وهي تستحق مقابل عملها الاستثماري أجرة معلومة ومحددة متفق عليها ، وهي حالة تشبه صورة ( مدير الاستثمار ) المعين كأجير في شركة معينة مقابل راتب شهري ( أجرة معلومة ) ، فهذا النوع من المحافظ الاستثمارية تجب زكاته على المالك الأصلي للأموال ، لأنه هو الذي يملك أمواله ملكا تاما ، وهي تحت سلطته وتصرفاته بصورة تامة ومطلقة ، وإن كان قد كلف غيره بإدارتها ، ولكن تصرفات المدير في أمواله خاضعة لمالكه الأصلي وتحت سلطته المطلقة .

والخلاصة : إن محافظ الاستثمار نوعان : 

الأول : محافظ وكالة ومضاربة ونحوها ، وهي الغالب الأعم في تطبيقات محافظ الاستثمار المعاصرة ، فهذه تجب زكاتها على ( جهة الاستثمار ) التي هي نفس الوكيل ونفس عامل المضاربة ، والسبب أن المال يندمج في ذمتها ويختلط بماليتها وتكون تصرفاتها على الأموال تامة ، والنوع الثاني : محافظ الإجارة ، وهي قليلة الوجود في عرف السوق ، لكن الزكاة فيها تبقى على ذمة مالك المال الأصلي ، لأنه هو الذي يملك المال ملكا تاما وتصرفاته فيه نافذة ومطلقة بلا قيود من الغير ، وبهذا يتبين أن القاعدة الفقهية ( زكاة محافظ الاستثمار تتبع الملك التام ) تستوعب جميع تطبيقات وأنواع المحافظ الاستثمارية الشائعة في سوق الاستثمار بمختلف أنواعها المعاصرة ، وبصورة دقيقة ومنضبطة .

* تعتبر المحافظ والصناديق من الأوعية الاستثمارية المعاصرة ، وهنالك العديد من الفروقات الفنية بين المحافظ والصناديق ، وتلخيصها على النحو الآتي : أما المحفظة فهي : وعاء استثماري فردي ومغلق ، والملكية فيها عينية تعود في الأصل لشخص واحد ؛ حقيقي أو اعتباري ، وتنظمه القواعد العامة للعقود في القانون المدني ، واللوائح التي تصدرها وزارات التجارة ، وعنوانها رقمي ؛ حيث لكل محفظة رقم خاص بها ، وأطرافها اثنان في الأصل ، المستثمر صاحب رأس المال والمؤسسة ( مدير الاستثمار ) ، وقد تضم المحفظة الواحدة إلى جانب الأصول النقدية أوراقا مالية وربما أصولا عينية وعقارية ، وللمستثمر توجيه دفة سياسات الاستثمار الخاصة بمحفظته ؛ فهو أمير المحفظة إنشاء وإدارة وتصفية ، والتقييم يتم على أساس الأصول نفسها ، ولا تحتاج المحافظ إلى ترخيص رسمي من أية جهة ، سوى ما تنص عليه الاتفاقية بين الطرفين .وأما الصندوق : فملكيته جماعية ومفتوحة ، بحيث تعود ملكية الصندوق بصورة مشاعة لجمهور المشتركين فيه ، وذلك بحسب الوحدات التي يمتلكها ، كما يتطلب الصندوق الحصول على ترخيص له من البنك المركزي ووزارة التجارة ، وذلك بناء على دراسة جدوى ونشرة إصدار معتمدة ، وللصندوق اسم وليس مجرد رقم ، وله عمر محدد ونطاق عمل محدد ، وله شخصية اعتبارية مستقلة عن أفراد المشاركين فيه ، وبالتالي فلا يتدخل المستثمر بسياسات الاستثمار في الصندوق ، وإنما هو اختصاص مدير الاستثمار وطبقا لنشرة الإصدار المصدرة للجمهور ، والتقييم فيها يتم على أساس " الوحدة الاستثمارية " ، ولا تكون الاشتراكات في الصندوق إلا نقدية فقط ، وموجوداته ممثلة بالوحدات قابلة للتداول ، والعلاقة فيها بين ثلاثة أطراف مستقلة ؛ المستثمر ومدير الاستثمار وأمين الاستثمار ، ويتم تصفية الصندوق في حالات أبرزها : انخفاض قيمة الوحدات عن50% من سعرها في آخر تقييم ، أو بموافقة 75% من المشتركين على التصفية .وانظر حول موضوع المحافظ والصناديق : كتاب مرجعي قيم بعنوان " المحافظ المالية الاستثمارية أحكامها وضوابطها في الفقه الإسلامي " ، لفضيلة أخينا أستاذ الشريعة / د. أحمد معجب العتيبي ، ( نشر : دار النفائس ، 2007م ) وأصله رسالة ماجستير بالجامعة الأردنية ، قام الباحث من خلالها بدراسة تطبيقية لعقود الشركات الاستثمارية في السوق الكويتي بالإضافة إلى تعليمات البنك المركزي الكويتي .

تعتبر ( صناديق الاستثمار ) من الأوعية الاستثمارية المعاصرة ذات الشخصية القانونية والمالية المستقلة ، والتي تعتمد على فلسفة الشركة بحقوق شائعة ، وإذا كان الحق الشائع في الشركة يسمى ( حصة ) فإن الحق الشائع في الصندوق يسمى ( وحدة استثمار ) ، وعلى هذا الأساس يكون المالكون لوحدات الاستثمار هم أصحاب ملكيات ناقصة ، لأنهم إنما يملكون حقوقا فقط على الأموال الخاضعة تحت مطلق تصرفات إدارة الصندوق ، وبالتالي فإن الزكاة لا تجب على المستثمرين مالكي الوحدات في صناديق الاستثمار ، بينما نجد في الصناديق أن تصرفات مدير الصندوق بالأموال مطلقة بحسب حدود نشرة الإصدار للصندوق والمعتمدة من جهة الاختصاص بالدولة ، ولما كانت ملكية شخصية الصندوق تامة على أموال الصندوق فإن المكلف بإخراج الزكاة هو نفس شخصية الصندوق وليس أشخاص المستثمرين فيه . يؤكد ذلك أن ملكية الصندوق مستقلة وتامة على الأموال المستثمَرة فيه أشبه الشركة تماما ، ولذلك يتعين على الصندوق كما الشركة أن تكون لهما شخصية قانونية تستند إلى وثيقة تأسيس مستقلة ، وإلى شخصية مالية مستقلة تعبر عنها قوائم مالية دورية تعبر عن ملكيتها التامة على موجوداتها وممتلكاتها ، الأمر الذي يعني أن زكاة ( صناديق الاستثمار ) إنما تجب على شخصية الصندوق المستقلة ماليا وقانونيا ، ولا تجب الزكاة على المكتتبين بوحدات الصندوق المستثمرين فيه لأن ملكياتهم ناقصة على أموالهم التي في الصندوق ، وهذا يشبه تماما ما ذكرناه في قاعدة ( زكاة الشركة تجب عليها لا على الشركاء ) .

لما كانت ( صكوك الاستثمار ) عبارة عن شركة في نشاط مستقل عن أشخاص الشركاء ، وهذه الشركة يتم إنشاؤها لغرض خاص وتسمى ( SPV ) ، وهي التي تصدر تلك الصكوك وتلتزم بالحقوق مقابلها ، فإن ذلك دال بيقين على أن هذه الشركة الوسيطة هي المالكة للتصرف بالأموال على سبيل الملك التام ، وعليه فإن زكاة أموال الصكوك إنما تجب على الشركة الوسيطة فقط ، وأما حملة صكوك الاستثمار فإن ملكيتهم ناقصة وليست تامة ، بدليل أنهم يتحولون بمجرد تسليم الأموال إلى الشركة ليصبحوا مالكي حقوق على الشركة المصدرة ، وتصرفاتهم في أموالهم تصبح مقيدة وناقصة ، الأمر الذي يعني أن زكاة صكوك الاستثمار إنما تجب على الشركة نفسها ، ولا تجب على الشركاء المالكين للصكوك ، وهذا يشبه ما ذكرناه في قاعدة ( زكاة الشركة تجب عليها لا على الشركاء ) .

تعتبر ( الأسهم ) من أدوات الاستثمار المعاصرة ، وهي عبارة عن حقوق مالية منفصلة تصدر عن شركة ذات شخصية قانونية مستقلة ، ويفرق الفقه الإسلامي المعاصر بين نوعين من الأسهم : أسهم مضاربة وأسهم استثمار ، أما أسهم المضاربة فهي التي يشتريها الشخص بهدف توليد الربح من إعادة بيعها بسعر أعلى ، فمصدر الربح المستهدف هو الفرق الموجب بين سعري الشراء والبيع ، وهذا هو السلوك التجاري المعروف في الأسواق بصفة عامة ، وأما أسهم الاستثمار فهي التي يشتريها صاحبها بهدف الاحتفاظ بالسهم في الأجل الطويل ( أكثر من سنة ) ، ويكون مصدر الربح هو نتائج أعمال الشركة في نهاية السنة المالية .ويتجه غالب الفقه الإسلامي المعاصر بشأن حكم زكاة الأسهم إلى تقسيمها إلى نوعين :

النوع الأول : أسهم المضاربة في الأجل القصير ، فهذه تجب زكاتها بحسب منتهى قيمتها السوقية يوم حولان حولها ، سواء ارتفع سعرها عن قيمة الشراء أم انخفض فالعبرة بالقيمة السوقية للسهم يوم وجوب الزكاة ، وذلك تأسيسا على أن أسهم المضاربة من تطبيقات عروض التجارة في الأسواق المالية المعاصرة .

النوع الثاني : أسهم الاستثمار في الأجل الطويل ، وتجب زكاتها في الفقه الإسلامي المعاصر على أحد مذهبين ، أولهما : تجب الزكاة في الأرباح التشغيلية للشركة في نهاية المالية ( صافي الربح ) ، والثاني : أن الزكاة في السهم تجب بحسب الموجودات الزكوية لدى الشركة ، فلا يزكى كامل السهم وإنما تفصل البنود الزكوية عن البنود غير الزكوية ، ثم تحتسب الزكاة بنسبة ربع العشر من الناتج .والذي نرجحه : أن ( السهم الاستثماري ) المعد للاستثمار في الأجل الطويل والمقصود ربحه في نهاية المدة يعتبر من الحصص التابعة لتشغيل الشركة في واقعها الفعلي ، وبالتالي فإن السهم هنا يأخذ حكم الحصة الشائعة في الشركة من حيث أن ملك صاحبه له وسلوكه فيه يعبر عن ملكية ناقصة ، وبالتالي فلا زكاة على المستثمر إذا ملك السهم بقصد الاستثمار طويل الأجل ، بدليل أن المستثمر يستهدف ويتحرى ( القيمة الدفترية ) للسهم والتي يصنعها الواقع التشغيلي الفعلي للشركة ، وما يتحقق في نهاية السنة من ربح أو خسارة .لكن من ملك ( السهم المضاربي ) وكان سلوكه فيه المتاجرة وقصد التربح من إعادة البيع في الأجل القصير فإن ذلك يدل بوضوح على أن سلوكه يتطابق مع ( عروض التجارة ) في الزكاة ، وبالتالي تجب عليه زكاته لأنه يملك التصرف بالحق المضاربي ( المستقل ) عن تشغيل الشركة ، ويدل على ذلك أن ( السهم المضاربي ) له قيمة سوقية ومضاربية يحددها العرض والطلب في بورصتها ، بينما ( السهم الاستثماري ) يقصد مالكه إلى جني الأرباح من تشغيل الشركة الفعلي في نهاية السنة المالية .والخلاصة : تجب الزكاة في أسهم المضاربة كعروض تجارة بحسب منتهى قيمتها السوقية يوم وجوب الزكاة ، وأما أسهم الاستثمار فالصحيح الذي نرجحه أن هذا النوع من الأسهم يقابل الحصص الحقيقية في الشركات ، بدليل أن العائد المستهدف مصدره التشغيل الحقيقي للشركة في الواقع ، وما دامت أسهم الاستثمار بمنزلة الحصص في الشركة فهنا يجب العمل بالقاعدة الفقهية السابقة ( زكاة الشركات تجب عليها لا على الشركاء ) ، وعليه فإن حاملي الأسهم بقيمتها الدفترية ( المالكين للشركة ) إنما يملكون فيها ملكا ناقصا غير تام ولا مطلق ، والنتيجة أنه لا تجب الزكاة في أسهم الاستثمار ، والسبب أنها بمنزلة الحصص في الشركة ، وملكية الشركاء ناقصة وليست تامة ، ولا زكاة في الشرع إلا على مال مملوك ملكا تاما ، ومالكو أسهم الاستثمار لا يملكون أصول الشركة إلا على سبيل الملك الناقص والحقوق المجردة ، وهذا النوع من الملكية الناقصة وليست التامة لا تدخله الزكاة .

تختلف الحسابات المصرفية ( الودائع البنكية ) بحسب نوع العقد الذي تقوم عليه في واقع القانون المعاصر ، فمنها الحسابات الجارية والتي يصطلح عليها في قوانين التجارة المعاصرة باسم ( وديعة نقود ) ، ومنها الودائع التي تعتبر عقود مضاربة أو وكالة بالاستثمار ، وبالتالي فإن الزكاة في كل نوع من الودائع المصرفية إنما تجب على من يملك التصرف المطلق والتام بالمال المودع ، وعلى هذا فالقاعدة العامة في الودائع المصرفية - بل وفي سائر أوعية الاستثمار المعاصرة - أن زكاة أوعية الاستثمار تجب على من يملك المال ملكاً تاماً ، فمن تسلط على ذات المال واستبد بملكية التصرف فيه طيلة الحول فإنه يكون هو المكلف شرعا بزكاته متى تحققت سائر شروطه ، وذلك عملا بقاعدة الغرم بالغنم ، ولأنه مال تحقق فيه وصف الغنى الذي هو علة وجوب الزكاة في الإسلام . وعلى هذا فإن الودائع المصرفية تنقسم إلى نوعين رئيسين : النوع الأول : ودائع جارية أو ودائع تحت الطلب : إن هذا النوع من الودائع الجارية إنما تجب زكاتها على أصحابها المودعين لها ، والسبب أنهم هم المالكون لها على الحقيقة ، فهم يتصرفون فيها بمقتضى الملك التام والتصرف المطلق في أي وقت يشاء المودع من ليل أو نهار ، ومن غير أن يحتاج لاستئذان أحد بذلك التصرف ، ولذلك يطلق عليها في العرف المصرفي ( ودائع تحت الطلب ) أو ( ودائع جارية ) ، وذلك تعبيرا عن سلطة المودع فيها على أمواله وسرعة تحريكه لها بحسب قراره هو سحبا أو إيداعا ، بينما البنك في المقابل لا يملك الحق بأن يحول بين أصحاب الحسابات الجارية وبين أموالهم فيها ، فإن فعل ذلك فقد ارتكب مخالفة توجب التعويض أو التغريم . جاء في قانون النقد والبنك المركزي الكويتي ( مادة 96 ) ما نصه : ( تلتزم البنوك الإسلامية برد الودائع تحت الطلب كاملة لأصحابها عند طلبها ، ولا تحمل هذه الودائع بأي خسائر ) ، ولذلك فإن ملكية البنك منقوصة وضعيفة ، بدليل أن العميل يمكنه التصرف المطلق في أمواله ـ ماديا أو إلكترونيا ـ في أي وقت يشاء وبلا قيد أو شرط ، وليس ذلك إلا الملك التام بالنسبة للعميل . النوع الثاني : ودائع استثمارية بإشعار أو ودائع طويلة الأجل : إن الودائع الاستثمارية تقوم على مبدأ استقلالية البنك بالتصرف بأموال المودعين في تلك الودائع المعدة لغرض الاستثمار ، وعلى نحو تتسلط فيه يد البنك على أموال الوديعة الاستثمارية بموجب عقد المضاربة أو عقد الوكالة سواء في مقررات الفقه الإسلامي أو في نصوص القانون المدني ، والقاعدة أن زكاة الودائع الاستثمارية إنما تجب على البنك نفسه لأن ملكيته عليها تامة بموجب عقد الاستثمار الموقع بينهما ، وبالتالي فإن الزكاة لا تجب على العميل صاحب الوديعة الاستثمارية ( المودع ) لأنه إنما يملك حقوقا مجردة وملكيته على أمواله ملكية ناقصة وليست تامة ، والزكاة لا تجب إلا في مال ملكه تام بيد صاحبه ، وهذا الشرط قد انعقد عليه إجماع العلماء قديما وحديثا كما أسلفنا . ومن الأدلة القاطعة في الواقع على نقصان ملكية المودع على أمواله في الوديعة الاستثمارية أنك تجد البنك يقوم بإجراء شهير اسمه ( الحجز ) على أموال الوديعة بصورة قانونية باتة ، وذلك ( الحجز القانوني ) من شأنه أنه يُغِل ويمنع يد المودع عن التصرف المطلق في أمواله ، والتي هي محجوزة لدى البنك ومقيدة بغرض استثمارها بمعرفة البنك نفسه ، فلا يملك المودع سلطة على التصرف المطلق بأمواله كما كان من قبل . والمثال التالي يؤكد ذلك ويصدقه في الواقع المصرفي المعاصر : فلو أن شخصا يملك حسابين باسمه ، أحدهما : حساب جارٍ ( تحت الطلب ) ، والثاني : حساب استثماري ( طويل الأجل ) ، ثم دخل إلى حساباته على الموقع الإلكتروني للبنك بهدف تحويل رواتب الموظفين في شركته فإن النتيجة أنه يمكنه تنفيذ التحويلات من حسابه الجاري ( تحت الطلب ) فقط لا غير ، ولكنه في المقابل لا يملك تنفيذ نفس التحويلات من حسابه الاستثماري ، والسبب أن الثاني محجوز عليه لدى البنك ، بمعنى أن تصرفات صاحب الحساب في الأموال مقيدة وممنوعة إلا بشرط الاستئذان الكتابي الرسمي ، ثم البنك بعد شرط الاستئذان مخير بين أن يرفع الحجز فيفرج عنها فورا وبين أن يؤجل رفع الحجز حتى أجل يقره عليه القانون والعرف وقد يكون مثبتا في عقود الودائع الاستثمارية نفسها . فثبت بهذا المثال الواقعي أن المودع في الوديعة الاستثمارية لا يتمكن من إجراء ذات التصرفات المطلقة التي يمارسها في حسابه الجاري في البنك نفسه ، بل إنه لكي يتمكن من التصرف في أموال الوديعة الاستثمارية فإنه يلزمه الاستئذان عن طريق تقديم إخطار كتابي ذي شكل مادي أو إلكتروني قانوني معين ، وبعده يقرر البنك بحسب ملاءته واستعداده أن يفرج عن الأموال ويزيل الحجز المفروض عليها أم لا ، وذلك بحسب ظروف خزينة البنك ملاءة أو عجزا ، ولأسباب تتعلق بمخاطر السيولة وانكشاف الخزينة . ومن أدلة أن البنك هو من يملك أموال الوديعة الاستثمارية ملكا تاما أنه بحكم سلطته على التصرف بالأموال فإنه يملك حق التربح من تشغيل أموال الوديعة الاستثمارية عدة مرات في السنة ولصالح نفسه ، حيث يتقاضى البنك نسبة أرباح خالصة له استقلالا وبالاتفاق ، مع الأخذ بالاعتبار ترصيد العائد السنوي المحدد الذي التزم به البنك للعميل المودع ، جاء في قانون النقد وبنك الكويت المركزي ( مادة 96 ) ما نصه : ( يشارك أصحاب الودائع الاستثمارية في الأرباح والخسائر التي تتحقق من النشاط بنسبة أموالهم المشاركة في الاستثمار ، ووفقا للعقود المبرمة معهم ، والأحكام الواردة في هذا القانون ) ، والمقصود أن تلك المواصفات القانونية والتدابير المالية الواقعية تؤكد بيقين أن زكاة أموال الودائع الاستثمارية إنما تقع على عاتق البنك وحده دون المودع ، وذلك لكون العميل المودع ذا ملك ناقص ، بينما من يملك التصرف بالملك التام بأموال الوديعة هو البنك استقلالا . ويُصَدِّقُ ذلك في الواقع أن البنك هو الأعلم والأدرى بأسرار وتفاصيل توظيف أموال الوديعة ، في حين أنها معلومات محظورة حظرا تاما ومطلقا عن علم المودعين ، فكيف يقال للمودع بعد ذلك كله : عليك أن تزكي أموال وديعتك الاستثمارية على الرغم من كون ملكه عليها ناقصا ، حتى إن العميل يجهل تمييز الأموال الزكوية من غير الزكوية التي وظف البنك فيها أمواله ، فكيف يتمكن من حساب زكاته مع جهله المطلق بتوظيفاتها ؟!!

إن هذه القاعدة الفقهية تعالج إحدى أكثر النوازل المصرفية غموضا ، والتي تتعلق بزكاة عمليات ( خلق الائتمان ) في القطاع المصرفي ، والتي عادة ما تتسم بالغموض والخفاء وعسر الفهم ، حيث تجيب القاعدة بدقة عن ضابط من تجب عليه الزكاة في الأموال المخلقة عن الحسابات المصرفية ، كما تؤصل لطرفين منفصلين في هذه العلاقة، ويتبعهما محلين منفصلين للأموال، فتأتي الزكاة شرعًا بمقتضى شرط الملك التام على كل منهما استقلالًا عن الآخر، فتجب الزكاة أو لا تجب على الطرفين بحسب تحقق شرط الملك التام مع استكمال بقية شروط علة وصف الغنى بالنسبة لكل منهما، وذلك لأن الزكاة تتبع وصف الغنى وجودًا وعدمًا. يقصد بآلية (خلق الائتمان): قدرة البنك على إيجاد نقود (قوة شرائية) جديدة، وذلك على أساس إدارته عنصر الثقة بملاءته، حيث يقدم تمويلاته بواسطة أدوات السحب غير المباشرة، مثل: الشيك والبطاقات البنكية والتطبيقات البنكية الذكية، والتي تتيح تحويل الأرصدة النقدية كتابيًّا وحقوقيًّا فقط، ودون أن تؤثر حركتها على الأرصدة النقدية الحقيقية في خزينة البنك في آجالها القصيرة، وإلى أن تتم التسويات النقدية الحقيقية بين البنوك في أجل طويل دوري خلال السنة، وبذلك يتضح أن الذي يقود عمليات التبادل التجاري وحركة الحقوق المالية في الاقتصاد هو وسائل الدفع والتعهدات القانونية، وليس النقد الفعلي ذاته، وإن كان النقد الحقيقي هو من يبعث روح خلق الائتمان في البنوك. إن الحسابات المصرفية في البنوك تنقسم إلى نوعين رئيسين : النوع الأول : حساب جاري ( تحت الطلب ) ، وسمي بذلك لأن قدرة العميل تامة على التصرفات فيه دون أن يمنعه البنك من ذلك ، فالملك التام لأموال الحساب الجاري إنما تكون بيد العميل المودع صاحب الحساب ، فإذا أودع العميل ( 100 ) مثلا فإن البنك يستخدمها في خلق طاقة نقدية جديدة واشتقاق قوة شرائية على أساس المائة ، وبذلك يصبح العميل يملك رأس ماله المودع في حسابه الجاري وفق قاعدة الملك التام ، وفي المقابل يصبح البنك مالكا للنقود الجديدة المشتقة والمخلقة والتي تزيد أضعافا بعد الاشتقاق فوق أصل المائة المودعة من قبل العميل ، وبالتالي فإن زكاة الائتمان المخلق أو المشتق إنما تجب على نفس البنك لأنه يملكها ملكا حقيقيا تاما ، والبنك هو الذي يتصرف بها استقلالا ويبرم عقود التمويل المصرفي بناء على ذلك ولعدة سنوات . النوع الثاني : حساب استثماري ( وديعة استثمارية طويلة الأجل ) ، فالعميل إذا أودع ( 100 ) مثلا فإن البنك يقبضها ويملك التصرف فيها على أساس الملك التام ، فالبنك يستخدم رصيد الوديعة الاستثمارية في خلق طاقة نقدية جديدة واشتقاق قوة شرائية على أساس المائة الأصلية المودعية كاستثمار لديه ، وعليه فإن زكاة الائتمان المخلق أو المشتق على أساس الوديعة الاستثمارية إنما تجب زكاته على نفس البنك لأنه يملكها ملكا حقيقيا تاما ، والبنك هو الذي يتصرف بها استقلالا ويبرم عقود التمويل المصرفي بناء على ذلك ولعدة سنوات . بينما تتحول ملكية العميل المودع للوديعة الاستثمارية لتصبح ناقصة بمجرد إبرامه عقد الوديعة مع البنك ، وبالتالي فإن الزكاة تسقط عنه ولا تجب عليه بسبب فقدان شرط الملك التام المجمع عليه بين العلماء قديما وحديثا لوجوب الزكاة في المال ، وأدلة نقصان ملكية المودع في الوديعة الاستثمارية كثيرة وأبرزها : أن البنك يفرض على المبلغ المودع حجزا قانونيا يمنع يد العميل عن التصرف المطلق في المال في أي وقت ، بل يتعين على العميل أن يتقدم بطلب الإفراج عن أمواله التي يملك الحق المجرد فيها فقط لا غير طيلة زمن الوديعة ، ثم البنك أمير نفسه بعد تلقي طلب ( كسر الوديعة ) ، فقد يحرر البنكُ الوديعةَ من القيود المانعة فيفرج عنها على الفور لصالح العميل ، وذلك بعد إلغاء أو خصم أية أرباح مستحقة عليها كعقوبة للعميل على عدم استمراره في تنفيذ أجل عقد الاستثمار ، وقد يهمل البنك طلب العميل مدة من الزمن قد تصل لأيام أو أسابيع أو شهور بحسب الصلاحيات التي يملكها البنك بموجب نصوص عقد الوديعة الاستثمارية . والخلاصة : إن زكاة الحسابات المصرفية تتلخص في العناصر التالية : 1- تجب زكاة رصيد الحساب الجاري على العميل المودع نفسه ، وذلك في حدود رصيده الذي أودعه فعليا لدى البنك ، فإذا تحققت الشروط الأربعة لوصف الغنى في الرصيد النقدي فإن زكاته تجب على العميل المودع نفسه ، والسبب أنه يملك التصرف في أمواله المودعة في الحساب الجاري ملكا تاما ، ولذلك سميت ( تحت الطلب ) . 2- لا تجب الزكاة على العميل المودع في رصيد الوديعة الاستثمارية ، والسبب أن ملكيته ناقصة على أموال الوديعة ، ولا تجب الزكاة في المال بالإجماع إلا إذا تحقق شرط الملك التام فيه ، وإنما تجب زكاة الوديعة الاستثمارية على البنك نفسه ، لأنه يملكها ملكا تاما ويملك التصرف فيها طبقا لقراراته المنفردة دون تدخل المودع . 3- عندما يقوم البنوك بخلق الائتمان أو اشتقاق النقود فإنه يكون حينئذ مالكا ملكا حقيقيا تاما لتلك الأموال المخلقة ، سواء أكانت الوديعة عبارة عن حساب جاري ( تحت الطلب ) ، أو كانت وديعة استثمارية ( طويلة الأجل ) ففي الحالتين يكون المالك للأموال المخلقة هو البنك وحدة ، وهو أيضا المالك للتصرفات فيها لوحده منفردا ، وبذلك تكون زكاة النقود المخلقة أو المشتقة على البنك استقلالا .

إن هذه القاعدة الفقهية في زكاة الشركات المعاصرة تقرر أنه لا تجب الزكاة شرعا في أرباح الشركات باعتبار ذاتها إلا أن يحول عليها حول كامل ، وتتحقق فيها شروط الزكاة الأخرى فتجب حينئذ ، وتستند هذه القاعدة إلى صريح ما رواه القاسم بن سلام بسنده في كتابه ( الأموال ) أن عمر بن عبد العزيز كان يرسل الكتب لعماله ، وفيها : ( ألا تأخذوا من أرباح التجار شيئا حتى يحول عليها الحول ) .ويعضد صحة هذه القاعدة المؤيدات التالية : 1- إن الأصل في وجوب الزكاة في الأموال المنع والتوقف والعدم ، فلا تجب الزكاة إلا في مال ثبت وجوب زكاته بدليل شرعي ، وهذا الدليل منعدم ومفقود في مسألة زكاة ( الأرباح ) ، والنتيجة التأصيلية الواضحة أن الزكاة لا تجب في أرباح الشركات باعتبار ذاتها .2- إن الأرباح لم يتحقق فيها شرط الشرع الذي يوجب حولان حولها ، والسبب أن الأرباح لا تتحقق عادة إلا نتيجة أعمال تشغيلية جرت خلال السنة المالية ، فتحققها أثناء السنة دليل أن حولها لم يكتمل بعد ، ولا زكاة في مال لم يحل حوله في أصل الشرع ، لكن إذا أعيد الربح إلى أصول الشركة فإن زكاته تتبع أصولها الزكوية في نهاية السنة المالية .3- لما كانت الأرباح تتولد من التشغيل في أثناء السنة المالية فإن ذلك يعني أن الأرباح قبل تحققها كان ملكها منعدما بالنسبة للشركة ، بدليل أن خاصية الخلطة والشيوع في تشغيل الشركات تحول دون العلم بمدى تحقق الربح على وجه اليقين والواقع ، بدليل أن الربح المتوقع لا يمكن الجزم به ولا القطع بتحققه ولا قبضه على الحقيقة إلا بعد إتمام مرحلة تقييم الأصول طبقا للأسعار الجارية في الواقع ، وهو ما يطلق عليه بعض الفقهاء ( التنضيض ) ، وعندها فقط يمكن تحديد مقدار الأرباح المحققة وكذلك الأرباح غير المحققة بصورة فعلية ودقيقة ، والمقصود أن شرط الملك التام أو المطلق في الأرباح يبقى غير متحقق طيلة الفترة المالية ، ولا زكاة في مال ملكه ليس تاما .4- من أدلة عدم وجوب الزكاة في أرباح الشركات أن الأرباح تتولد من نوعين من الأصول ، بعضها أصول تدخلها الزكاة كالنقدية وعروض التجارة ، بينما البعض الآخر من تلك الأصول لا تدخلها الزكاة أصالة كأموال القنية ( أصول ثابتة ) ، وكالأموال المنصرفة لصالح الغير ، فكيف نوجب الزكاة في ثمرة تفرعت عن خليط مشاع من الأصول الزكوية وغير الزكوية .5- ومن دقيق المعاني المحاسبية وطبقا لطريقة ( صافي الغنى ) فإن بند ( الربح ) لا يظهر مستقلا في الميزانية ، وإنما الربح يكون مندرجا ضمن رصيد ( حقوق المساهمين ) في آخر المدة ، فإذا كان جانب ( المطلوبات ) يجب استبعاده بكامل بنوده الظاهرة أو المتضمنة فيها فإنه يجب استبعاد ( الربح ) ضمنيا في جملة المطلوبات من أجل حساب زكاة الشركة .واعلم أن هذه القاعدة الفقهية المعاصرة تترتب عليها النتائج التالية :أ / إن هذه القاعدة تقدم مراجعة معمقة وتصحيحا مهما لإطلاق بعض الفقهاء مقولة ( الربح يتبع أصله ) في باب الزكاة ، والدليل على عدم صحة هذا الإطلاق أنك تجد بعض الأصول المشاركة في إنتاج الربح لا تجب فيها الزكاة أصلا ، كما نجد ذلك في الربح المتولد عن أصول قنية ثابتة في الشركة ، ولا أدل على ذلك من زكاة المستغلات فإن الزكاة تجب في الغلة والربح والعائد وإن كان أصل العين المستغلة ( المؤجرة ) لا زكاة فيها في أصل الشرع ، الأمر الذي يدل على عدم صحة أن الربح يتبع أصله من حيث الإطلاق .ب/ إن كل ما يتفرع محاسبيا عن بند الأرباح لا تدخله الزكاة ، مثل : الاحتياطيات والمخصصات بجميع صورها ومسمياتها في علم المحاسبة ، وذلك لكونها بنودا متفرعة عن بند الأرباح ، فإذا كان الأصل ( وهو الأرباح ) لا زكاة فيه فإن عدم وجوب الزكاة في فروعه من باب أولى ، ويؤكد ذلك ويصدقه أنها جميعا عبارة عن بنود تتعلق بجانب المطلوبات من قائمة المركز المالي ( الميزانية ) ، وسيأتي لاحقا أنه بحسب طريقتنا المسماة ( معادلة صافي الغنى ) فإننا نستبعد جانب المطلوبات بكامل أجزائه وبنوده عند حساب الزكاة .ج/ خطأ تطبيق طريقة صافي الدخل من أجل حساب الزكاة الشركات المعاصرة ، وهو ما ذهبت إليه بعض قوانين وتشريعات الزكاة المعاصرة .هـ / إن معنى قاعدة ( لا زكاة في أرباح الشركات ) يشمل جميع الأرباح المتولدة عن أية أدوات استثمارية أخرى غير الشركات ، مثل : الصناديق والمحافظ والصكوك والودائع التي تستثمر فيها الأموال طلبا لتحقيق الربح ، فإن الربح المحصل منها جميعا لا تدخله الزكاة باعتبار ذاته ، وإنما تجب فيها الزكاة إذا تحقق فيها وصف الغنى بشروطه الأربعة . و / إذا كانت الأرباح التي تنتج عن أصولها لا زكاة فيها ، فإن عدم وجوب الزكاة في المال المستفاد بسبب آخر لا تجب زكاته باعتبار ذاته كما أسلفنا ، وهكذا يمكننا تقرير نفس معنى القاعدة بعبارة أخرى مفادها : إن زكاة الأرباح تدور مع وصف الغنى وجودا وعدما .

إن هذه القاعدة الفقهية تقرر أنه لا تجب الزكاة شرعا في أرصدة المخصصات والاحتياطيات في ميزانيات الشركات ، ويرجع السبب إلى أن المخصصات والاحتياطيات إنما هي فرع عن الأرباح التي حققتها الشركة في نهاية السنة المالية السابقة ، وقد ثبت أن الأرباح باعتبار ذاتها لا تجب الزكاة فيها إلا إذا تحقق فيها وصف الغنى بشروطه الأربعة ، فمن باب أولى أن تكون التوابع للأرباح لا زكاة فيها أيضا لأنها تابعة للأرباح ، والسبب أن وجودها حقوقي ( مطلوبات ) وليس حقيقي ( موجودات ) ، بمعنى أن وجودها كالتزام على ذمة الشركة يظهر بصورة حقيقية فعلية موزعا على الأصول في جانب الموجودات من الميزانية ، وبالتالي فإن حساب زكاة المخصصات والاحتياطيات ضمن معادلة حساب الزكاة تعتبر ضربا من الثنيا المحظورة في الشريعة الإسلامية . وتعريف المخصص : (رصيد نقدي يقتطع من الإيرادات لمواجهة مخاطر مستقبلية محتملة وخاصة)، ويتم التعامل معه محاسبيًّا كمصروف يظهر بالزيادة في قائمة الدخل فينقص الربح قبل تحققه، بينما ذات المخصص الاحترازي الذي تم تكوينه يؤثر في (حقوق الملكية) كرصيد دائن في الميزانية، وعادة ما يكون المخصص مقترنًا بسببه الخاص مباشرة فيسمى باسمه( )، ولذلك فإن أنواع المخصصات كثيرة ومتعددة بحسب أسبابها ومخاطرها المحتملة، مثل مخصص ديون مشكوك فيها، ومخصص إهلاك الأصول الثابتة، ومخصص هبوط أسعار الاستثمارات وخسائر الأصول كالأوراق المالية، ومخصص هبوط قيمة المخزون، ومخصص تطوير الأصول الثابتة أو نقص قيمتها، ومخصص المطالبات القضائية أو التعويضات الملزمة للشركة والمتوقع ثبوتها بحكم قضائي ضد الشركة، ومخصص مكافأة نهاية الخدمة، فجميع هذه المخصصات وغيرها يتم تكوينها عند الحاجة وقاية واحترازًا من تحمل الشركة أعباءها المحتملة حال تحققها في المستقبل، وعند زوال السبب الداعي لتكوين المخصص يتم إلغاؤه وإعادة رصيده ليظهر أثره في قائمة الدخل كزيادة في الأرباح. وتعريف الاحتياطي : (رصيد نقدي يقتطع من الأرباح لمواجهة مخاطر محتملة عامة في المستقبل)، حيث تقرر الشركة احتجاز جزء من الأرباح من أجل تعزيز قوة المركز المالي للشركة وبناء دعامات مالية لمواجهة أية مخاطر عامة غير محددة قد تطرأ لاحقًا على الشركة، ولذلك فإن الاحتياطي لا يقترن بأصل معين من الأصول كما هو الحال في المخصصات، وإنما يكون عامًّا مطلقًا، مثل: الاحتياطي الإجباري الذي تفرضه الدولة، والاحتياطي الاختياري، والاحتياطيات (السرية / الخفية) غير المعلنة، والأرباح المدورة أو المرحلة أو المبقاة، وغيرها. ورغم تشابه (المخصص) مع (الاحتياطي) من عدة وجوه، منها: أنها من أدوات إدارة المخاطر المالية والمحاسبية في الشركات، وأنها بنود احترازية تقديرية، وأنها يتم تكوينها لمواجهة مخاطر وأحداث سلبية محتملة أو متوقعة على الشركة في المستقبل، وأنها تندرج تحت بند (حقوق الملكية) من جانب المطلوبات من الميزانية . والفرق الجوهري والرئيس بينهما يكمن في أن (المخصص) عبارة عن رصيد وقائي لمواجهة خطر مستقبلي خاص ومحدد النوع، وعادة ما يرتبط هذا المخصص بالأصل الخاص المعين الذي أُعِدَّ من أجله، ودليل ذلك أن المخصصات تُكَوَّنُ من الإيرادات وقبل استخلاص الربح، وأما (الاحتياطي) فهو أيضًا رصيد وقائي لمواجهة خطر مستقبلي، ولكن هذا الخطر كلي وعام وغير محدد النوع، بدليل أن الاحتياطيات تُكَوَّنُ بعد استخلاص الربح، فالاحتياطيات لا ترتبط بمخاطر خاصة متعلقة بأصول معينة خاصة، وإنما يتم تكوينها وإدارتها من أجل مواجهة المخاطر الكلية والعامة التي قد تتعرض لها الشركة مستقبلًا، سواء لإطفاء الخسائر المحققة باستدعاء تلك الاحتياطيات، أو لمواجهة أية مطالبات أو التزامات عامة قد تعجز الشركة عن الوفاء بها تجاه الغير. ومن أدلة بطلان دخول الزكاة على المخصصات والاحتياطيات أن هذه الأرصدة النقدية الوقائية يتم تكوينها احترازًا لمواجهة مخاطر الشركة (الخاصة أو العامة) في المستقبل، فهي حقوق تتعلق بأحداث يتوقع أو يحتمل وقوعها في السنة المالية القادمة، وهذا يتعارض ويتناقض تمامًا مع (شرط حولان الحول) في الشريعة الإسلامية، فإن الزكاة تجب على الأصول المستقرة في حساب ختامي للسنة المالية المنتهية، ولا يجوز بمقتضى هذا الشرط الشرعي الصريح أن ندخل في حساب الزكاة أية أحداث مستقبلية، ولا سيما إذا كانت احتمالية، والعجيب أن هذا الشرط الشرعي يتطابق في معناه مع (فرض الفترة المحاسبية) أو (الدورية) في نظرية المحاسبة المالية، والذي يقضي بعدم جواز إدخال أحداث مستقبلية في ميزانية الفترة المالية الحالية، فانظر كيف تطابقت أصول الشرع في الزكاة مع أصول نظرية المحاسبة المالية الدولية في منع دخول الزكاة على المخصصات والاحتياطيات. فهذه القاعدة الفقهية في محاسبة الزكاة (لا زكاة في المخصصات والاحتياطيات في ميزانيات الشركات) تأتي لتنفي بوضوح تام دخول الزكاة على أي من بنود المخصصات والاحتياطيات كافة، ولتزيل أي توهم أو اشتباه يقع فيه المحاسب أو الفقيه بشأن خضوعها للزكاة في الشريعة الإسلامية، فتقرر القاعدة بوضوح أنه لا زكاة مطلقًا في المخصصات والاحتياطيات في ميزانيات الشركات، ومن توهم أن المخصص أو الاحتياطي قد تدخله الزكاة فإنه لم يتصور حقيقتهما في واقع الأعمال والميزانيات، فقد جاء بما لا أصل له لا في الشرع من كتاب أو سنة، بل ولا يتفق مع صريح العقل ولا صحيح النظر المحاسبي السليم، فإن المطلوبات مرآة للموجودات، وحسابها في الزكاة ثنيًا محظورةً في الشرع الحنيف. والخلاصة : إن قاعدة (لا زكاة في المخصصات والاحتياطيات في ميزانيات الشركات) تحسم جدلًا كبيرًا واضطرابًا واسعًا بين المحاسبين في الزكاة المعاصرة، بل وبين فقهاء الشريعة المعاصرين أيضًا بشأن ما تجب زكاته من المخصصات والاحتياطيات وما لا تجب زكاته منها اجتهادًا من عند أنفسهم، حيث إنها تنفي وتمنع الزكاة بالكلية عن أن تدخل على أي من بنود (المخصصات والاحتياطيات)، فالمحاسبون والفقهاء المعاصرون لو التزموا نصوص الشرع لمنعوا زكاتها ابتداء تمسكًا بحدود الشرع في أحكام الزكاة، ثم إنهم لو علموا أن (المخصصات والاحتياطيات) إنما هي بنود افتراضية (حقوقية) لمجابهة أخطار مستقبلية محتملة، وأنها موزعة ومنعكسة فعليًّا على الحقيقة وفي الواقع على بنود الأصول في جانب الموجودات لما جازفوا إلى اختراع آراء اجتهادية لا يسندها دليل من الشرع، ولا يقرها منطق الزكاة على الأموال والممتلكات الزكوية الفعلية، فضلًا عن كونها آراء تناقض الفلسفة الصحيحة للمحاسبة المالية للشركات، بل وتعارض أصولها القانونية الحاكمة لأعمال الشركات قديمًا وحديثًا.

إن هذه القاعدة الفقهية المعاصرة تقرر أن المال الذي يرصده المسلم ويدخره من أجل تلبية حاجاته المستقبلية ـ الضرورية أو الحاجية ـ أنه تجب الزكاة فيه ، فكل من ادخر مالا للمستقبل من أجل مسكن أو زواج أو علاج أو تعليم ، أو ادخره لحاجات أسرته وأولاده في المستقبل ؛ فإن هذا المال يُعَدُّ اكتنازا في اصطلاح الشرع ، وتجب زكاته إذا تحققت شروط الغنى فيه شرعا طبقا لعمومات النصوص الشرعية الآمرة بإيتاء الزكاة ، وهذا الحكم يعم مالية الأفراد والشركات والدول ، ومن توهم رفع الزكاة عن مثل ذلك فقد أبطل المقصود من تشريع الزكاة بل أبطل فريضة الزكاة وتعطيل لها بالكلية ، فإنه ما من مدخر للمال إلا وله غرض وحاجة من وراء ادخاره أمواله في المستقبل .

القواعد الفقهية في أصول الزكاة

إن ضبط الأصول الكلية لفريضة الزكاة يعد من أهم الضرورات العملية المعاصرة لإتقان فقه نظام الزكاة في الإسلام ، إذ إن من المشكلات التي يواجهها عامة المفتين والباحثين حالة الانتشار وعدم الضبط الهيكلي لأصول الزكاة ؛ الأمر الذي يضعف الوحدة الموضوعية لها ، مما يضعف جودة التصور الشامل لنظام الزكاة برمته في الإسلام ، وتأتي هذه القاعدة الفقهية المعاصرة لتقدم ضابطا استقرائيا عمليا للأصول العشرة المتعلقة بالأموال في باب الزكاة ، حيث تبين أن ثمانية أصول منها تدخلها الزكاة ، في حين أن أصلين آخرين من الأموال - قديما وحديثا - لا تدخلهما الزكاة ، وقد تضمنت القاعدة تقديم اصطلاحات فقهية جديدة تتماشى مع سهولة الفهم في لغة العصر ، كما لا تخل باصطلاحات ومعاني المتقدمين ، فكانت هذه القاعدة الفقهية من أبرز قواعد التجديد في القواعد الفقهية للزكاة المعاصرة .

ولقد قادنا استقراء أصول الأموال من حيث تعلقها بالزكاة إلى أنها ترجع إلى عشرة أصول جامعة ؛ ثمانية تزكى ، واثنان لا يُزَكَّيان ، أما ( أصول الأموال الزكوية ) فثمانية ، وهي : النقد ( النقدان ) ، والتجارة ( عروض التجارة ) ، والإجارة ( المستغلات ) ، والإبل ، والبقر ، والغنم ، والزروع مع الثمار ، ثم الركاز ، وأما ( أصول الأموال غير الزكوية ) فاثنان ، وهما : الاستهلاك ( القنية ) ، وما كان تحت الإنشاء .

هذه القاعدة من أعظم القواعد الفقهية الضابطة لباب الزكاة قديما وحديثا ، بل إنها من ضرورات التجديد في باب الزكاة برمته ، والغفلة عنها ـ ولا سيما عند الفقهاء المعاصرين ـ مما يوجب الاضطراب في تصور أصول الزكاة ابتداء ؛ فضلا عن إنزال أحكامها على نوازلها في مختلف الوقائع والأعصار ، حيث تقدم القاعدة صياغة فقهية جديدة للعلة الشرعية التي تدور عليها فريضة الزكاة في الإسلام ، فتقرر القاعدة بأن علة وجوب الزكاة هي ( وصف الغِنى ) ، وهي علة صحيحة للحكم نبهنا الشرع عليها في نصوص متعددة ، فيثبت وجوب الزكاة بثبوتها وينتفي بعدمها ، لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما ، فجاءت القاعدة بلفظ ( الزكاة تدور على وصف الغِنى وجودا وعدما ) .

تعتبر هذه القاعدة الفقهية من الضرورات العملية لفهم كيفية تطبيق الزكاة على الأموال مهما اختلف الزمان والمكان وقرائن الأحوال ، فقد علمنا الشرع الحكيم ـ وفق ما وردت به النصوص الشرعية ـ أن علة وجوب الزكاة تكمن بوصف ( الغنى ) في الأموال ، وبذلك يرفع عنا الحرج في التماس العلة والبحث عنها ، ثم عمد الشارع إلى هذه العلة المنصوصة فضبطها ضبطا دقيقا ؛ فحدد لها أربع صفات معيارية حاسمة ، بحيث يمكن قياسها والتحقق منها فعليا في واقع الأموال في كل زمان ومكان ، والضوابط الأربعة لوصف الغنى هي : الإباحة الشرعية ، والملكية التامة ، وبلوغ النصاب ، وحولان الحول ، وبذلك يصبح لمصطلح ( الغنى ) في الزكاة دلالة خاصة مقيدة تختلف عن مدلوله في اللغة أو حتى في العرف .

وهكذا فإن القاعدة الفقهية تفيدنا أن وصف ( الغني ) في نظر الشرع وفي باب الزكاة لا يتحقق إلا عندما تتوافر في المال أربعة شروط مجتمعة ، حتى إنه لو تخلف شرط واحد منها فإن الزكاة تسقط حينئذ تبعا له ولا تجب بحكم الشرع نفسه ، فإذا اجتمعت الأربعة في مال فقد وجبت الزكاة فيه ، وبهذا تعلم أن الشارع الحكيم لم يترك ضابط الغنى لعرف الناس أو لاجتهاداتهم وأقيستهم البشرية ، وإنما وضع لنا الضوابط الإلهية والمعايير العملية القابلة للفحص والتحقق والقياس من قبل البشر في كل زمان ومكان ؛ والتي يدلنا اجتماعها على تحقق علة ( الغِنى ) في المال من عدمه .

تختص هذه القاعدة الفقهية ببيان أسباب ضعف الملك الداخل على الأموال ، والذي إذا تحقق في المال فرن الشرع الحكيم يرفع عنه وجوب الزكاة ، حيث تحدد أسباب ضعف الملك واختلاله في أصلين رئيسين هما : المال الذي لم يصل إليكَ بَعْدُ ، والمال الذي كان في ملكِكَ ابتداء ، لكن اعترى ملكيتك له ما يُقَيِّدُ تَصَرُّفاتِك فيه ، بحيث تكون يد صاحب المال مغلولة كليا أو جزئيا عن إحداث مطلق التصرفات فيه ، فالملك قائم ومتحقق في الواقع ، ولكنه ملك منقوص ومقيد بوجه من وجوه التقييد في الواقع ، وبالتالي لا يكون ملك الشخص لماله حينئذ ملكا تاما مطلقا ، وإن حالة ( ضعف الملك ) بأي من سببيها المذكورين في نص القاعدة توصف بألقاب منها ( ملك ناقص ) أو ( ملك غير تام ) أو ( ملك غير مطلق ) أو ( ملك مقيد ) أو ( ملك ضعيف ) ، وجميعها أوصاف وألقاب للملك غير التام بالنسبة للشخص .وتتمثل الأسباب التي تؤدي إلى ضعف الملك في الأموال في السببين التاليين :السبب الأول : عدم استقرار الملك المطلق للمال بيد صاحبه :والأصل في هذه الحالة أن الشخص لم يتملك المال فعليا ولم يقبضه على الحقيقة ولا دخل في حيازته المادية أصلا ، وإن كان قد ثبت له فيه حق بالملك ، فهو يملك ملكا حقوقيا مجردا وليس ملكا حقيقيا تاما ، فمثل هذا النوع من الحقوق بالتملك لا يمكن وصفها بأنها من قبيل الملك التام أو الملك المطلق ، بدليل أن خطر تخلفها عن الحصول أو القبض قائم ومحتمل بدرجة عالية ، فكيف يتصرف الشخص في مال لم يستقر في ملكه ولم يدخل نطاق حيازته وتصرفه أصلا ، ومن أمثلة هذا السبب ( عدم استقرار الملك ) ما يلي :

1.الحصة الشائعة في الشركة قبل قبضها .

2.الحصة الشائعة في التركة قبل قسمتها .

3.حصص أطراف المضاربة في الربح قبل التنضيض .

4.الحصة الشائعة في الغنيمة قبل قسمتها .

5.الحصة الشائعة في الصدقة قبل قبضها .

السبب الثاني : امتناع التصرف المطلق بالمال : وفي هذه الحالة الأصل أن الشخص قد سبق ملكه للمال في الماضي ، ولكن هذا الملك السابق طرأ عليه سبب يجعل تصرفه فيه منقوص وغير تام ، فصاحب المال وإن كان يملك الحق المستقر بالمال ، إلا أن هذا الحق المجرد قد اعتراه سبب ما نع أخل بالقدرة المطلقة والسلطة الكاملة لصاحب المال على التصرف فيه ، ولا ريب أن مثل هذا النوع من الحقوق بالتملك لا يمكن وصفها بأنها من قبيل الملك التام أو الملك المطلق ، بدليل أن خطر زوالها أو تخلفها عن الحصول أو القبض هو خطر قائم ومحتمل بدرجة عالية ، فكيف يتصرف الشخص في مال سلطة غيره عليه أقوى وأعلى ، ومن أمثلة هذا السبب ( امتناع التصرف المطلق ) ما يلي :

1.جميع الديون التي تنشأ على أساس نقد أو عين .

2.المال الذي اشتراه صاحبه ولم يقبضه .

3.المرهون في حيازة الدائن المرتهن صاحب الحق .

4.المال المغصوب أو المسروق أو المجحود عن مالكه .

5.المال الضائع أو الضال عن مالكه .

6.المبيع بيد المشتري زمن الخيار . 

وأما أبرز الأمثلة المعاصرة للقاعدة فتتمثل في التطبيقات التالية :

1-ملكية الحصة الشائعة في الشركات المعاصرة بجميع أنواعها ، فملكية الشريك لنصيبه من الشركة ملكية ناقصة ، بدليل عدم قدرته على التصرف المطلق بموضوعه إلا بعد التقويم حقيقة أو حكما ، ولذلك لا يملك التصرف في أي من موجوداتها استقلالا بغير إذن بقية الشركاء .

2-ملكية الحصة الشائعة في التركة ، فملكية الوارث لنصيبه من التركة ملكية ناقصة ، بدليل عدم قدرته على التصرف المطلق بموضوعه إلا بعد القسمة الفعلية بين الورثة ، ولذلك لا يملك التصرف في أي من موجوداتها استقلالا بغير إذن الورثة في هذه الشركة الجبرية .

3-ملكية المودع في الوديعة الاستثمارية والمستثمر في صندوق الاستثمار أو المستثمر في الصكوك ، فإن جميع أولئك ملكياتهم ناقصة ، وليست ملكيتهم على أموالهم تامة في الأوعية الاستثمارية المذكورة ، بدليل أن مطلق التصرف بيد مدير الاستثمار استقلالا ، بينما أصحاب المال الحقيقيون لا يملكون التصرف بموضوعه .

إن الزكاة عبادة مالية تتعلق بنفس سلوك المال المادي في الواقع ، ولذلك كانت الزكاة عبادة معقولة المعنى ، ولذلك فرقت الشريعة الإسلامية بين الأموال الزكوية وغيرها ، فأوجبت الزكاة في الأولى بشروط وأوصاف منضبطة ، بينما لم توجب الزكاة في أنواع أخرى من الأموال ، فتصريح الشرع بالأموال الزكوية وغير الزكوية يدلنا على أن سلوك المال في ذاته هو المقصود والمعتبر ، وبحسب هذا السلوك فإن الزكاة تجب في أموال ولا تجب في أموال أخرى . ونقصد بسلوك المال تلك الأصول العشرة للأموال في الزكاة ، فإذا كان المال نقودا مدخرة أو عروضا تجارية أو مستغلات مؤجرة أو ثروة حيوانية أو زراعية أو ركازا فإن الزكاة تلحق هذه الأصناف من الأموال الزكوية فقط ، لكن إذا كان المال متخذا للاستهلاك الشخصي ( القنية ) ، أو كان المال واقعا تحت مرحلة الإنشاء والإنتاج والتحويل فإن الزكاة ترتفع عن هذا المال تبعا لهذا السلوك المادي له في الواقع ، وعليه فالزكاة إنما تجب بحسب سلوك المال الذي حدده الشرع في الواقع من حيث وجوب الزكاة أو عدمها .

النية في الزكاة على ضربين : أولهما : نية العبادة القلبية ، وثانيهما : نية السلوك الواقعي ، أما ( نية العبادة ) فهي عمل قلبي كامن في النفس ، وذلك بأن تؤدَّى العبادةُ على أساس نية قلبية صحيحة وخالصة لله رب العالمين ، فمن كان قصده ونيته بأداء الزكاة مجاملة الناس أو إرضاؤهم ومراءاتهم أو خوفا من السلطان وخشية عقوبته ، فإن هذه النية القلبية تبطل العمل بين العبد وربه ، بل إن الله يحبط ثواب هذه العبادة لأنها لم يُقصَد بها وجهُ الله تعالى ، والواجب لكي يصح العمل أن يكون خالصا لله تعالى وحده لا شريك له . وأما النوع الثاني من النية في الزكاة فهو ( نية سلوك المال ) ، ويقصد بها السلوك المادي الحقيقي للمال في الواقع العملي الذي يدركه الناس في أعرافهم ومعاملاتهم المادية ، ومثال ذلك : لو أن شخصا عرض بضاعة له - عقار أو سيارة - في السوق ، ثم إنه سعى بين التجار في عرضها والترويج لبيع عينها ، بل وتابع السماسرة والدلالين في التماس أعلى الأسعار السوقية للعين فلا ريب أن هذا السلوك المادي يوجب أن يوصف المال المعروض بأنه ( عروض تجارة ) أو ( أصول معدة للبيع ) ، فلو زعم هذا الشخص أنه بسلوكه المذكور لا يقصد لا البيع ولا التجارة وإنما كان قصده مجرد الاستهلاك والقنية للعين فقط لا غير ، فإن العقل يقتضي تكذيبه في زعمه هذا ، بل يقطع العقل بناء على السلوك المادي للمال أنه كان يقصد بيع العين في سوقها ، فالعبرة في الزكاة إنما تكون بسلوك المال في الواقع ، وليس بالنية القلبية الكامنة في النفس . ومثله أيضا لو قال قائل : أنا أدخر النقود الكثيرة عاما كاملا بنية توظيفها في بناء مسجد أو بنية زواج أو علاج ونحوه ؛ فإن مجرد هذه النية القلبية لا تسقط وجوب الزكاة في المال إذا تحقق فيه وصف الغنى بشروطه ، لأن العبرة بسلوك المال في الواقع ولا عبرة بالنية القلبية لصاحبه .

وهذه القاعدة الفرعية الثالثة تقضي بأن العبرة في الزكاة إنما هي بسلوك المال إذا تحقق شرط الغنى فيه بشروطه من عدمها ، وأما شخصية مالك المال نفسه فلا عبرة بها ولا يلتفت إليها ، والسبب أن حقوق الفقراء والمساكين وسائر أصناف المصارف الثمانية إنما تعلقت بالمال في ذاته وفي سلوكه ، ولا يضر حينئذ أن يكون مالك المال رجلا أو امرأة ، صغيرا أو كبيرا ، عاقلا أو مجنونا ، صحيحا أو سقيما ، كما أنه لا فرق بين أن تكون الشخصية طبيعية ( عادية ) ، مثل : سائر الأفراد المالكين في المجتمع ، أو أن تكون الشخصية معنوية ( اعتبارية ) ، مثل : سائر الشركات والهيئات والمنظمات الربحية وغير الربحية ، حتى إنها تشمل شخصية الدولة والاتحادات الدولية ما دامت لها شخصيتها القانونية والمالية المستقلة ، والمقصود أن العبرة بتحقق وصف الغنى لدى الشخص ، بقطع النظر عن طبيعة هذه الشخصية وصفاتها العارضة التي لا تنتهي .ويدل لصحة هذه القاعدة الفرعية حديث " اتجروا بأموال اليتامى لا تأكلها الزكاة أو الصدقة " ، حيث أرشد النبي الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأولياء إلى ضرورة تثمير أموال اليتامى لئلا تأكلها الزكاة الواجبة فيها كل عام ، وهذا دال على إلغاء اعتبار نقص شخصية اليتيم ، حيث أناط وجوب الزكاة بذات المال وأمر الولي بإخراج الزكاة منه ، لأن العبرة بذات المال لا بشخصية مالكه .ويترتب على هذه القاعدة المهمة جملة من النتائج والثمرات، وأبرزها ما يلي :

1-إبطال اعتبار النية القلبية في مسائل الزكاة : إن من أعظم ثمرات هذه القاعدة أنها تنبه الفقيه المعاصر إلى عدم اعتبار النية في مسائل الزكاة ، فقد شاع لدى عامة الفقهاء سؤال المستفتي عن نيته بشأن طبيعة ملكيته للمال ، فمن ملك عقارا جاهزا أو تحت الإنشاء فإن الفقيه يسأله عن نيته بامتلاكه لهذا العقار ، هل نيتك بامتلاكه في المستقبل أن تضارب به كعروض تجارة ؛ أم نيتك استغلاله كمستغلات ؛ أم نيتك مجرد استهلاكه كسائر أموال القنية ؟ ، ولا ريب أن هذا المسلك في الفقه ضعيف للغاية ، لأن المستفتي يعلم من نفسه أن نيته تتقلب مرات كثيرة ما بين الأغراض الثلاثة ؛ التجارة والإجارة والاستهلاك .

2-إبطال أثر مسألة تردد النية في الزكاة : إن من أعظم المشكلات التي تنتج عن مبدأ اعتبار النية القلبية في سلوك المال المادي في الزكاة هي مسألة ( تردد نية المزكي ) ، وإليك المثال التالي : شخص بات ليلته عاقدا نيته على بيع عقاره كعروض تجارة ، فلما أصبح نصحه صاحبه بتأجير العقار وعدم بيعه فإن ذلك أجدى وأنفع ، فعقد هذا الشخص النية القلبية على معاملة العقار معاملة المستغلات وليس ( عروض تجارة ) ، ثم إنه بعد وقت العصر استشار زوجته فأمرته بأن يدخر العقار لإسكان أولاده بعد عام واحد ، فلا بيع ولا تأجير ، فانظر في هذا المثال كيف ترددت نية المالك في اليوم الواحد عدة مرات ، وربما بقي هذا الرجل على هذه الحالة مترددا في نيته كلما جد جديد أو التمس رأيا أو استشارة من صديق .والصحيح أن فريضة الزكاة لا يجوز أن تناط بالنوايا القلبية الخفية والمضطربة ، وإنما الصواب والعدل المنضبط أن تناط الزكاة بسلوك المال نفسه في الواقع ، فمن حجب عقاره قصدا وعمدا عن السوق طيلة الحول السابق فقد ادخره واقتناه لنفسه فيكون هذا العقار حينئذ ( قنية ) لا زكاة فيه ، ومن طرحه للبيع وتابع السماسرة والدلالين بشأن أعلى سعر للعقار طيلة الحول الماضي فإن المال يكون ( عروض تجارة ) ، فتجب زكاته حينئذ على القيمة السوقية للعقار وقت حولان الحول ، فإن حجب العقار عن البيع وطرحه للتأجير فقط ليبيع منافعه دون عينه فقد اتخذه من ( المستغلات ) ، وهذه تجب زكاتها في ريعها وإيراداتها دون القيمة السوقية لأصل العقار نفسه ، وهكذا فإن الزكاة تتبع سلوك المال في الحول الماضي ، فإن كان سلوكه زكويا فقد وجبت زكاته ، وإلا فلا . 

 3-إبطال أثر طبيعة شخصية الغني في الزكاة : ومن ثمرات هذه القاعدة الفقهية أنها تلغي اعتبار شخصية المزكي وأثرها في الزكاة مطلقا ، فحيثما وُجِدَ وصفُ الغنى لدى أي شخص طبيعي أو اعتباري فقد وجبت الزكاة فيه ، وذلك بغض النظر عن شخصية هذا المالك وما يطرأ عليها من عوارض وأوصاف ثانوية .

إذا أطلق مصطلح ( العقار ) في اللغة العربية فإنه يشمل كل أصل عقاري سواء تمثل في صورة مبنى سكني أو أرض خالية عن أية معالم بناء ، جاء في المعجم الوسيط : ( العقار : كل ملك ثابت له أصل ، كالأرض والدار ، والجمع عقارات ، والعقار الحر : ما كان خالص الملكية يأتي بدخل دائما يسمى ريعا ) ، وهذه القاعدة الفقهية تؤصل لحكم الزكاة في العقارات بجميع أنواعها ، فتصنف العقارات إلى أصلين كبيرين ، وتحت كل أصل منهما قسمان ، حيث تقرر أن زكاة العقار إنما تتبع سلوكه في الواقع ما بين تجاري كعروض تجارة مقابل العقار غير التجاري ، وبيان ذلك على النحو التالي :

الأصل الأول : عقار تجاري : وضابط العقار التجاري : ( دخوله سوق العرض والطلب إما بعينه أو بمنافعه دون عينه ) ، وهذه العقارات التجارية ( مباني / أراضي ) تنقسم بحسب سلوكها في السوق إلى نوعين : عقارات معدة للمتاجرة بأعيانها ، أو معدة للمتاجرة بمنافعها فقط دون أعيانها ، فهذه تجب فيها الزكاة عملا بعموم حديث ( أمرنا رسول الله أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع ) ، فشمل الحديث ما أُعِدَّ للبيع بعينه وذاته كأصل تجاري ، وما أُعِدَّ لبيع منافعه وخدماته دون قصد بيع عينه ، وهذا المعنى يدل عليه أيضا قول الله تعالى : ( أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ) ، وبيان النوعين الرئيسين للعقارات التجارية على النحو التالي :

القسم الأول : عقار معد للمتاجرة ( عروض تجارة ) ، فهذا العقار ( مبنى / أرض ) تجب زكاته في منتهى القيمة السوقية للأصل الرأسمالي يوم حولان الحول ووجوب الزكاة ، وذلك أسوة بقاعدة عروض التجارة في الزكاة ، وهذا النوع من العقارات التجارية تجب الزكاة فيها بنسبة ( ربع العشر ) من إجمالي القيمة السوقية للعقار يوم حولان الحول .

القسم الثاني : عقار معد للتأجير ( مستغلات / عروض إجارة ) ، فهذا العقار ( مبنى / أرض ) مقتنى لغرض التأجير ( بيع منافعه ) فقط ، فتجب زكاته في الإيرادات النقدية المحصلة من الأصل العقاري فقط ، بينما لا تجب الزكاة على ذات الأصل العقاري المؤجر نفسه مهما بلغت قيمته التقديرية في السوق ، ثم إن الإيرادات المحصلة من عمليات التأجير تدخل إلى النقدية وتندمج معها أولا بأول ، وبالتالي تجب الزكاة في نهاية السنة المالية على رصيد النقدية متضمنا الإيرادات المحصلة من التأجير طيلة العام ، وعليه فإن العقارات المؤجرة ( مباني / أراضي ) تجب الزكاة فيها بنسبة ( ربع العشر ) على الإيرادات النقدية المحصلة منها وليس على قيمة أصلها ، ولما كانت الإيرادات تدخل مع النقدية أولا بأول فإنها تزكى معها يوم وجوب الزكاة .الأصل الثاني : عقار غير تجاري : وضابط العقار غير التجاري : ( عدم دخوله سوق العرض والطلب لا بعينه ولا بمنافعه ) ، وهذه العقارات غير التجارية من ( مباني / أراضي ) لا تجب فيها الزكاة في الإسلام بنص الحديث النبوي : ( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة ) ، فكل عقار له قيمة مالية في السوق إذا اتخذه الإنسان من أجل الاستفادة من منافعه وخدماته لحاجاته الشخصية ، أي بغرض السلوك الاستهلاكي أو الادخاري المجرد فإنه الزكاة لا تجب فيه ، وذلك لعدم وجود الدليل الذي يوجب الزكاة فيه أولا ، وعملا بعموم حديث ( ليس على الرجل في عبده ولا فرسه صدقة ) ثانيا ، ولأن هذا العقار ليس نقودا ولا عروض تجارة ولا مستغلات من جهة ثالثة . واعلم أن من معاني ( القنية ) في اللغة العربية ( حفظ المال وادخاره ) ، قال النووي : ( القُنْيَةُ بكسر القاف : الادخار ، قال الجوهري : ويقال : ( قنوت الغنم وغيرها قُنوة وقِنوة بكسر القاف وضمها ، وقنيت أيضا قِنية بالكسر والضم : إذا اتخذتها لنفسك لا للتجارة ) ، وقال الكفوي : ( القُنْيَةُ : هي اسم لما يُقتنى ، أي : يُدَّخر ويُتَّخذ رأس مال زيادة على الكفاية ) .وتأسيسا على ما سبق فإن قسم ( العقارات غير التجارية ) تنقسم - بحسب الغرض منها – إلى قسمين :

القسم الأول : عقار استهلاكي ( قنية استهلاك ) ، فهذا العقار المقتنى لغرض الاستهلاك لا تجب فيه الزكاة ، لأنه عقار مُعَدٌّ لغرض الاستعمال الشخصي والاستهلاك الذاتي .

القسم الثاني : عقار ادخاري ( قنية ادخار ) ، فهذا العقار المقتنى لغرض الادخار المجرد للمستقبل لا تجب فيه الزكاة ، والسبب عدم وجود الدليل الذي يوجب الزكاة فيه ، ولعموم حديث ( ليس على الرجل في عبده ولا فرسه صدقة ) ، ولأنه ليس نقودا – تلبست بها علة الثمنية - ، وليست عروض تجارة ، ولا هي عروض مستغلات ، فبقيت على أصلها من أن الشرع لم يوجب الزكاة عليها ، وعليه فإن الزكاة لا تجب في العقار غير التجاري ( لغرض الاستهلاك أو لغرض الادخار ) ، سواء أكان عند شخص طبيعي – كالأفراد – ، أو لدى شخص اعتباري – كالشركات - ، وتسمى في محاسبة الشركات بمصطلح ( الأصول الثابتة ) .وخلاصة القاعدة : العقار في الزكاة أصلان : أولهما : عقار تجاري تجب زكاته ، وهو إما للمتاجرة فيه كعروض تجارة أو للمتاجرة بمنافعه – دون عينه – كعروض تأجير فقط ، فتجب الزكاة في العقار التجاري بنسبة ربع العشر من منتهى قيمته السوقية – ارتفاعا أو انخفاضا – ، بينما تجب الزكاة في العقار المؤجر بنسبة ربع العشر من إيراداته النقدية وغلته المحصلة منه كمستغلات ، والأصل الثاني : عقار غير تجاري ، فهذا لا تجب زكاته لأنه من أموال القنية التي ورد الحديث بنفي الزكاة عنها ، وهو إما أن يتخذه صاحبه لغرض الاستهلاك والاستعمال الشخصي ، وإما أن يتخذه صاحبه كادخار للمستقبل ، فهذان النوعان لا زكاة فيهما تبعا لأصلهما .

إن هذه القاعدة الفقهية تؤصل لحكم ( زكاة المخزون ) – حسب الاصطلاح المحاسبي - ، فتصنف المخزون إلى أصلين : مخزون تجاري ومخزون غير تجاري ، حيث تجب الزكاة في الأول تبعا لأصل ( عروض التجارة ) ، بينما لا تجب الزكاة في الثاني تبعا لأصل ( القنية والعوامل ) ، وبهذا التقسيم تبعا للأصلين يتحرر الإطلاق المحاسبي بشأن ( المخزون ) وعلاقته بوجوب الزكاة في الإسلام ، وبيان ذلك على النحو التالي :

الأصل الأول : مخزون تجاري : وضابطه : ( كل مال يدخل سوق العرض والطلب ) ، وقد يطلق عليه مخزون أو بضاعة للبيع أو بضاعة نهائية تامة الصنع ، فهذه تجب فيها الزكاة عملا بعموم حديث ( أمرنا رسول الله أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع ) ، فشمل الحديث ما أُعِدَّ للبيع بعينه وذاته كأصل تجاري ، وما أُعِدَّ لبيع منافعه وخدماته دون قصد بيع عينه ، وهذا المعنى يدل عليه أيضا قول الله تعالى : ( أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ) .على النحو التالي :

الأصل الثاني : مخزون غير تجاري : وضابطه : ( كل مال يُتَّخَذُ لغرض الاستهلاك والاستعمال الشخصي ) ، وقد يطلق عليه مواد خام أو مواد أولية أو مواد تحويلية أو بضاعة تحت الإنشاء وغير تامة الصنع ، فهذ لا تجب الزكاة فيها عملا بحديث ( ليس على المسلم في عبده وفرسه صدقة ) ، ولحديث ( ليس في العوامل صدقة ) ، ويدخل تبعا لذلك ( البضاعة الكاسدة ) ، وضابطها : ( ما انقطع طلبها في سوقها ) .

هذه القاعدة الفقهية توضح الموقف الشرعي من زكاة ( المخزون التجاري ) أو البضاعة المعروضة فعليا للبيع إذا ( انقطع الطلب عليها في سوقها ) بحسب اصطلاح عرف السوق ، وذلك بأن يتخلف ركن الطلب عنها في السوق ، فيصبح التاجر يعرض البضاعة ولكن ليس ثمة طالب لها في السوق يطلبها مطلقا ، فإذا تخلف ( ركن الطلب ) عن السلعة في سوقها فقد تخلف عنها وصف ( العرض التجاري ) ، حيث العرض لا يقابله طلب في عرف السوق ، فيبقى هذا النوع من السلع والبضائع لا زكاة فيه ، والسبب أنها كانت عروض التجارة ولكنها ارتفع عنها هذ الوصف التجاري وزال عنها ركن الطلب ، فتحولت السلعة حينئذ إلى سلعة غير تجارية عرفا ، وعليه فإن السلعة إذا بارت أو كسدت كسادا تاما مطلقا بحسب عرف السوق فإن حكم الزكاة يرتفع عنها ولا تجب فيها بسبب زوال الوصف الشرعي الذي علق الشرع الحكم عليه .وضابط هذا النوع من البضاعة : ( ما انقطع طلبها في سوقها ) ، حيث لا يطلق عليها في عرف التجار ( عروض تجارة ) ، وإنما يصنع عرف السوق والتجار والمحاسبين لهذا النوع اصطلاحات أخرى خاصة به ، بحيث تميزه محاسبيا عن عروض التجارة المعدة للبيع فعليا ولها سوق حاضرة ، وأما عروض التجارة الرائجة بدرجاتها الثلاث ( رواج عالي / رواج متوسط / رواج ضعيف ) فإنها تجب الزكاة فيها ، وذلك بسبب قيام الوصف التجاري الذي علق الشرع به حكم وجوب الزكاة ، وعليه فإن مجرد ضعف الطلب على عروض التجارة لا ينفي عنها قيام وصف العرض التجاري بالكلية ، فإن عدم تمكن التاجر من بيع العرض - لأسباب اعتيادية وطبيعية في السوق - لا يعني انقطاع الطلب عليه بالكلية ، وبالتالي يبقى وجوب الزكاة فيها قائما ومتحققا شرعا لكونها من ( عروض التجارة ) المعتبرة عرفا ، وبالتالي فإن الزكاة تسري على الأموال التجارية وإن تراجع الطلب عليها أو ضعف الإقبال عليها .فإن قيل : كيف يُعلم انقطاع الطلب عن العرض التجاري ؟فالجواب : إن هذه الحالة تُعلم بوسائل متعددة عرفا ، منها الخبرة وأدوات قياس الطلب في السوق ، فضلا عن ظاهرة جمود العَرَض التجاري وإدبار الطالبين عنه بالكلية ، فهذا مما يعلم بدلالة العرف والعادة المحكمة في الشرع ، بيان ذلك أن انقطاع الطلب يفضي إلى خروج العرض الذي أصله تجاري عن الحياة التجارية بالكلية ؛ حتى لكأن روح التجارة قد نُزِعَت منها ، ومدار تلك الوسائل كلها على قاعدة العرف والعادة بين الناس وفي أسواقهم .فإن قيل : ما المقصد الاقتصادي من إعفاء البضاعة الكاسدة من الزكاة ؟فالجواب : إن الشارع الحكيم قصد من فرض الزكاة على عروض التجارة ترميم آثار التحفيز التضخمي المستمر للأسعار ، والذي يحدثه التدافع التجاري بين قوتي العرض والطلب ( السلوك المضاربي ) ، والتجارة وإن كانت حقا خالصا للتاجر إلا أن الشارع الحكيم راعى حقوقا لشرائح أخرى تتعلق بفئات العجز في المجتمع ، فَقَيَّدَ حق التجارة للتاجر بمعيار زمني هو الحول ، حتى إذا استطال زمن التحفيز التضخمي للأسعار ـ بأن تجاوز حد الحول ـ فإن الشارع يفرض على القيمة السوقية التي بلغتها تلك العروض التجارية مقدار الزكاة الشرعي ممثلة بربع العشر ( 2,5 % ) ، لكن إذا خرج العرض التجاري عن القابلية للتصريف والبيع عرفا في سوقه فإنه يتحول ليصبح عبئا على صاحبها ، حيث ينفق عليه دون أن يملك القدرة على بيعه في عرف سوقه ، فأشبهت أموال القنية والاستهلاك من حيث مجانبتها لسوق العرض والطلب ، فترتفع الزكاة عنها مواساة للتاجر في مصيبته . ويتفرع عن ذلك أن خروج العروض التجارية ( الكاسدة ) عن سنن التجارة الفعلية في الواقع السوقي يجنبها من أن تكون سببا في ارتفاع الأسعار وتعزيز التضخم ، وبالتالي يصبح فرض الزكاة عليها لا مسوغ له من النواحي التطبيقية والمقاصدية معا ، لأن البضاعة قد خرجت عن ميدان التجارة والمضاربات السعرية إلى منطقة أخرى لا تعمل على تحفيز الأسعار نحو الارتفاع والتضخم .والخلاصة : أن هذا النوع من العروض التجارية لم تعد تسمى ( عروض تجارة ) بدليل انتفاء ركن الطلب عليها مع بقاء ركن العرض ، فهي عروض مجردة لا يقابلها طلب في عرف السوق ، فلا تُسَمَّى شرعا ولا عرفا بأنها ( عروض تجارة ) مطلقا ، ولكنها تقيد بقيد يميزها عن البضاعة الرائجة فيقال مثلا : ( بضاعة كاسدة ) أو ( بضاعة غير رائجة ) أو ( بضاعة بائرة ) ونحوها من الاصطلاحات التي يتعارف عليها التجار في كل سوق بحسبه ، والنتيجة أن الزكاة لا تجب على هذا النوع من العروض التجارية إذا ثبت في عرف السوق انقطاع الطلب عليها بالكلية .

إن هذه القاعدة الفقهية تضبط الأحكام التكليفية للعلاقة بين الزمن وعملية إخراج الزكاة لمستحقيها ، فقد فرقت القاعدة بين ثلاثة أزمنة على التوالي ، وهي : التعجيل والاستحقاق والتأخير ، ولكل من الأزمنة الثلاثة حكمه التكليفي في الإسلام ، فالتعجيل رخصة عند تحقق المصلحة ، وأداء الزكاة وقت استحقاقها واجب ، لكن تأخير الزكاة عن وقت استحقاقها ووجوبها محظور وغير جائز شرعا ، ما لم يكن لمصلحة راجحة أو مسوغ شرعي معتبر . وعلى هذا فإن الزكاة تدور من حيث تعلقها بالزمن على ثلاثة أزمنة هي : التعجيل والاستحقاق والتأخير ، وبيانها على النحو التالي : الزمن الأول : التعجيل : وهو أن يترجح لدى المزكي تعجيل إخراج الزكاة قبل وقت وجوبها لمصلحة راجحة ، كالحاجة إلى إجراء عملية جراحية لفقير قد يهلك بسبب عدم تعجيل الزكاة له ، أو لكارثة نزلت في بلد من البلاد يحتاجون المسلمون فيها إلى تعجيل الزكاة لهم ، فإن حكم تعجيل الزكاة رخصة مأذون بها في الشرع الحنيف ، والدليل ما رواه علي بن أبي طالب – رضي الله عنه - أن العباس بن عبد المطلب – رضي الله عنه – سأل النبي – صلى الله عليه وسلم – في تعجيل صَدَقَتِهِ – أي زكاتِهِ - قبل أن تَحِلَّ ، ( فرخص له في ذلك ) ، وعن علي أيضا أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال لعمر – رضي الله عنه - ( إنا قد أخذنا زكاة العباس عام الأول للعام ) ، وهذا من صريح سنته الفعلية الدالة على جواز تعجيل إخراج الزكاة قبل وقت وجوبها ، وقد ذهب إلى جواز تعجيل الزكاة قبل وقت وجوبها جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة ، خلافاً للمالكية . الزمن الثاني : الاستحقاق : وهو التزام المسلم بإخراج الزكاة إذا تحقق وقت وجوبها وتوافرت شروطها ، وحكم ذلك أنه واجب عليه شرعا عند الاستحقاق وحلول الحول على المال ، والدليل عمومات النصوص الشرعية الآمرة بإيتاء الزكاة من الكتاب والسنة ، ومنها قول الله تعالى : ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، ولأن ذلك هو مقتضى تطبيق شرط حولان الحول في الزكاة ، ففي الحديث : ( لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) ، ونقل ابن هبيرة الإجماع على هذا الشرط ، ولأن الأمر إذا صدر من الشرع على سبيل الوجوب فإنه دال على الفورية وعدم التراخي إلا لقرينة ، وليست في إيتاء الزكاة قرينة تصرف الفورية إلى التراخي . الزمن الثالث : التأخير : ومعناه أن يتعمد المكلف تأخير إخراج الزكاة لمستحقيها رغم حلول وقت استحقاقها ووجوب أدائها ، ودون وجود سبب شرعي أو مصلحة راجحة أو ضرورة تحمله على التأخير ، وحكم تأخير الزكاة عن وقت استحقاقها ووجوبها فعل محظور وغير جائز في الشرع ، لأن الزكاة إذا وجبت في حق المكلف فقد صارت حقا ثابتا في أمواله لصالح غيره ، وحبس الحق عن مستحقه ظلم وعدوان . ولذلك لم يتردد الخليفة الأول أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – في إعلان قتاله للمرتدين وقد ثبتت الزكاة عليهم حقا في أموالهم للمستحقين ، وعلل موقفه هذا بقوله - رضي الله عنه - : ( والذي نفسي بيده لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ) ، ولأن الله قد توعد الكانزين المتأخرين في إنفاقها بالعذاب الأليم ، كما قال تعالى : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ) ، ولأن المكلف بالزكاة إذا منعها تهاونا وتكاسلا وجب على ولي الأمر أخذها منه عنوة ، كما ورد في الخبر ( ومن منعها فإنا آخذوها منه وشطر ماله ، عَزْمَةً من عزمات ربنا ) . ومن تطبيقات وأمثلة هذه القاعدة : زكاة المال والتدفقات النقدية الدورية - ومنها المرتبات الدورية للموظف - ، وكذلك زكاة التدفقات العينية من البضائع المستورد أو المصنعة دوريا فإنها جميعا تدور بين التعجيل والاستحقاق والتأخير ، حيث يجوز التعجيل للمصلحة كرخصة من الشرع الحكيم ، ويجب زكاتها عند استحقاق الزكاة وتوافر وصف الغنى فيه بشروطه الأربعة ، فيجوز للمسلم الأخذ بأي من الحالتين ( التعجيل والاستحقاق ) ، وأما تأخير إخراج الزكاة بعد استحقاقها فغير جائز شرعا .

يشمل المال الحرام ( كل مال تعلق به حكم الشرع بتحريمه ، إما من حيث عينه وذاته ، أو من حيث سبب كسبه وتحصيله ، أو من حيث كيفية توظيفه واستثماره ) ، وهذه القاعدة الفقهية تقرر حكما فقهيا في باب الزكاة ، وحاصله أن الزكاة لا تدخل على المال الحرام ، ويستند هذه القاعدة إلى إعمال أحد الشروط الأربعة لوصف الغنى وهو شرط ( إباحة المال ) ، وضابطه الأشهر : أن يكون المال حلالًا في ذاته وفي طريق اكتسابه ، أي أن يكون المال الذي تجب الزكاة فيه حلال العين طيبًا في يد صاحبه ، وقد اتفق الفقهاء على :

1-من ملك مالا بطريق السرقة والغصب ونحوه فإن عليه واجب رده إلى مالكه الأصلي ( المغصوب منه ) .

2-لا تجب الزكاة في مال يحرمه الشرع لعينه ولذاته وباسمه كالخمر والخنزير والميتة والأصنام .وتستند هذه القاعدة الفقهية إلى أدلة شرعية من الكتاب والسنة ، مثل : قول الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) ، فدل مفهوم القيد بالوصف في الآية على أن المال إذا لم يكن طيبًا فلا تنفقوا منه ، إذ الواجب شرعًا إعادة الحقوق إلى أصحابها أو إتلاف العين المحرمة لذاتها كالخمر أو تعطيل الاستثمار المحرم أصالة ونحوه ، وفي الحديث : ( يا أيها الناس ، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، ثم تلا الآية السابقة ، فذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه السماء يقول : يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك ) .بل إن مقاصد الشرع الحنيف تأبى مبدأ توارد الزكاة والمال الحرام على محل واحد ، إذ كيف يوجب الشرع الزكاة في مال حَرَّمَهُ وحَظَرَه ونَهى عنه ، فهذه الأموال قد يملكها الناس في عرفهم إلا أن الشرع الحنيف يبطل إثبات الملكية هنا ، فثبت بذلك أن المال الحرام - ولا سيما إذا تعين - فإنه لا يكتسب صاحبه عليه ملكية في نظر الشرع، فكيف يقال بوجوب الزكاة فيه والشرع لا يعترف بماليته أصلًا، والنتيجة : أن الزكاة لا يصح أن تدخل إلا على مال حلال في أصله وفي طريق اكتسابه ، فإن داخل المالَ حرامٌ وجب تنقية المال وتصفيته من الحرام أولًا ، حتى إذا تمايز الحلال من الحرام ، وصار الحلال متحيزًا ومستقلًّا ومعلومًا في ذاته بعد تطهيره من الحرام فإن الزكاة تدخل على المال الحلال فقط حينئذ .لكن اختلف الفقهاء في المال الحرام : إذا كان التحريم قد تعلق وسيلة كسبه وسبب الحصول عليه وليس بسبب تحريمه لعينه وذاته ، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا زكاة في مال يحرمه الشرع بسبب كيفية اكتسابه وطريقة الحصول عليه ، كمن اقترض أموالًا بعقد الربا ، أو حاز المال بطريق السرقة أو الفوز بالقمار ، أو حصل على إيرادات وعوائد نتيجة استثمار أمواله في أنشطة محرمة شرعًا ، ومثال ذلك في عصرنا : القروض الربوية التي تحصل عليها الشركات من البنوك الربوية ، فهذه القروض تدخل إلى أصول الشركة بحيث تستثمر معها من أجل تحقيق الأرباح ، فالجمهور يبطلون وجوب الزكاة في مثل هذه الأموال المحرمة ، إذ كيف يجتمع الواجب مع الحرام في المال الواحد ؟! ، بينما ذهب بعض الفقهاء إلى أن الزكاة تجب في المال الحرام إذا كان التحريم لا يرجع إلى عين المال وذاته وإنما إلى طريقة تحصيله واكتسابه ، فلا نجمع لمالك الحرام بين فعل المحرم وترك الواجب ، وعلى هذا فإنهم يوجبون الزكاة في المال الحرام إذا كان تحريمه بسبب اكتسابه وليس بسبب تحريم عينه وذاته .وأما تطبيق معنى هذه القاعدة على الذمم المالية في الواقع المالي المعاصر للشركات والأفراد فإن ذلك يتطلب تفصيلًا أكبر وتقسيمًا أدق من الناحية العملية، ذلك أن الذمة المالية تدور على جانبين منفصلين هما: مصادر الأموال و استخدامات الأموال، فإذا ما تصورنا دخول المال الحرام على الذمة المالية فإن ذلك لا يخلو من ثلاث حالات تفصيلية، وهي على النحو التالي:الحالة الأولى: أن يدخل المال الحرام على الذمة المالية من جهة مصادر الأموال:فالشخص (شركةً / فردًا) إذا حصل على قرض ربوي مثلًا فإنه يكون قد أوجد دينًا ربويًّا على ذمته المالية، فهو قد زاد الدائنون من جانب المطلوبات، وقد أبرم من أجل التوصل لذلك عقد قرض نقدي بزيادة مشروطة مقابل الزمن، فالمال الحرام هنا وقع في جانب (مصادر الأموال) من الذمة المالية للشركة أو للشخص الطبيعي، ثم إن هذا المال الحرام سينتقل بالضرورة العملية ليشيع ويختلط مع الأصول في جانب الموجودات ، ففي هذه الحالة يجب التحري عند إخراج الزكاة بواسطة خصم رصيد المال الحرام من رصيد إجمالي الموجودات التي لدى الشركة كما تظهر في حساباتها الختامية نهاية المدة، ويكون ذلك عن طريق خصم مقدار الحرام بالنسبة والتناسب إلى مقدار كل أصل شائع من أصول الميزانية، وبذلك نتوسط من الناحية العملية فلا نهمل الزكاة في الشق الحلال من الموجودات وأصول الشركة، كما نستبعد في المقابل النسبة الشائعة من المال الحرام فلا نزكيه طبقًا للقاعدة الشرعية السابقة، وبذلك نكون قد توسطنا في تحري أحكام الشرع وتنزيلها على واقع ممتلكات الذمة المالية بعدالة ووضوح وانضباط، فلا تظلمون ولا تُظلمون.الحالة الثانية: أن يدخل المال الحرام على الذمة المالية من جهة استخدامات الأموال:فالشخص (شركةً / فردًا) إذا قام بتوظيف أمواله ذات الأصل الحلال في أوعية استثمار محرمة شرعًا وفي أنشطة تجارية لا تبيحها الشريعة الإسلامية، فإن الحرام هنا يكون محله عوائد المال وأرباحه وليس أصله الرأسمالي، فإن أصل المال المستثمر حلال بيقين، وأما الحرام هنا فمحله الإيرادات الناتجة عن تشغيل الأموال في أنشطة محرمة في نظر الشرع، فالحكم الواجب شرعًا هنا يعتمد على التمييز بين أصل المال وما تولد عن تشغيله المحرم، فأصل المال الحلال تجب زكاته ما دام متميزًا بذاته، وبشرط أن يكوم مملوكًا بيد صاحبه ملكًا تامًّا، وأما الإيرادات والعوائد والأرباح الناتجة عن تشغيل المال في نشاط محرم فهي ليست محلًّا للزكاة، بل يجب إخراجها على سبيل تبرئة الذمة من الحرام والتخلص منه، ولا يجوز اعتبار ذلك صدقة أو زكاة أو عبادة مالية، كلا؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا.لكن إن قيل: إن غالب تطبيقات أدوات الاستثمار المحرمة شرعًا يكون الملك فيها ناقصًا وليس تامًّا، فكيف تزكى؟ فالجواب: إن هذه الأوعية الاستثمارية المحرمة مثل: ودائع الاستثمار في البنوك الربوية، أو سندات الدين الربوية، أو أسهم البنوك الربوية، فإن الزكاة لا تجب فيها بسبب زوال شرط الملك التام، فتكون النتيجة أنه لا زكاة في رأس المال المباح لأن ملكه ناقص في مثل تلك الأوعية الاستثمارية ذات الملكيات الناقصة، وأما الأرباح والإيرادات المتولدة من الحرام فهي محرمة شرعا ، فلا زكاة فيها من حيث الابتداء، فضلًا عن كونها مما لم يحل الحول عليه عند تحققه بيد صاحبه.الحالة الثالثة: أن يدخل المال الحرام على الذمة المالية من الجهتين المتقابلتين معا:وهذه الحالة يكون المال الحرام فيها قد دخل على الذمة المالية من جانبي الذمة المالية، واختلط بأموال الشركة حتى لا يمكن تمييزه في الجانبين (المصادر والاستخدامات)، فالمال الحرام جاء بصورة قرض ربوي بفائدة - مثلًا -، وهو يظهر ضمن الدائنون من جانب المطلوبات، ثم المال الحرام أيضًا قد دخل على الشركة بصورة إيرادات وعوائد وأرباح تولدت من توظيف الأموال في أنشطة محرمة شرعًا، ومن أشهر أمثلة وتطبيقات هذه الحالة الثالثة المختلطة (ميزانية البنك الربوي) أو (ميزانية شركة التمويل الربوي) أو (ميزانية شركة التأمين التقليدي)، وكذا كل شخص طبيعي (فرد) دخلت أموال الحرام على ذمته من مصادرها واستخداماتها معا .فإن قيل: كيف نزكي هذا المال؟ فالجواب: إن الزكاة إنما تجب حال الصلاح والاستقامة وتمايز الحلال عن الحرام، وأما حالة الاختلاط والشيوع وعدم إمكان التمييز بين الحلال والحرام فهذه حالة موغلة في الإبهام والمخالفة للشرع الحكيم، والأصل الاجتهاد في تطهير الأموال وتمييزها ما أمكن أولًا، فإن صح ذلك في الواقع طبقنا عليه القواعد السابقة في الحالتين قبله، وأما إن تعذر التمييز وثبتت الخلطة ووقع الشيوع بين الحلال والحرام على وجه لا يمكن في الواقع تمييز أحدهما عن الآخر فإن الأموال في هذه الحالة لا تكون محلًّا قابلًا للتزكية في الشرع، فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا، والخلطة والشيوع المانعان من تمييز الحلال عن الحرام توجب معالجة أصل قيام الذمة النظيفة من الحرام ابتداء ، فإن الزكاة لم توضع لإصلاح المال الحرام ، وإنما شرعت من أجل تحريك المال الحلال في أصله .

لقد فرض الله الزكاة لحكم عظيمة ومصالح جليلة ، وتأتي هذه القاعدة الفقهية المعاصرة لتلخص المقصود الاقتصادي الأعظم من تشريع فريضة الزكاة ، حيث تُعرَّف ( المقاصد الشرعية ) بأنها : ( المعاني والحِكَمُ التي أرادها الشارع من تشريعاته لتحقيق مصالح الخلق في الدنيا والآخرة ) ، فإن فريضة الزكاة وسيلة إلهية مقصودها تحريك الأموال ( التجارة ) وبعث الأعمال ( الإنتاج ) ، فإن حركة المال في الاقتصاد مثل حركة الدم في جسد الإنسان ، كلما نشطت صح بنشاطها الجسد الاقتصادي ، وكلما تباطأت أو تعطلت حركة الأموال فإن هذا الجسد سيلحقه الخلل والعجز الذي قد يؤول به إلى العجز الجزئي أو الكلي أو الموت . فالزكاة عبادة مالية مستدامة ترصد منطقة العجز في الاقتصاد وتراقب الأسباب التي تصنعها فتعيد توزيع الدخول والأموال نحوها كي تجدد الحياة فيها وتعززها وتقويها ، فالفقير ـ مثلا ـ هو شخص فاقد للقوة الشرائية فلا يقدر على الطلب والشراء من السوق ، فيكون سلوكه الاقتصادي بسبب عجزه وفقره سببا حتميا لإحداث الركود والكساد ، وما ذلك إلا بسبب فقدان المال بيد طائفة من الناس في المجتمع ، فجاءت فريضة الزكاة من أجل تمكين الفقير من المال مجانا ، فيتحول إلى أداة محفزة للطلب على السلع والخدمات في الاقتصاد ، وهكذا نجد أن التضحية الجزئية بالمال اليسير من شأنها أن تبعث الروح في جسد الاقتصاد كله ، فتنتظم حركة الأموال بالتجارة والأعمال بالإنتاج دون توقف أو تباطؤ . ومن أشهر أدلة هذه القاعدة المقاصدية قول الله تعالى { كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم } ، فالتشريعات الإلهية في الأموال ـ بصفة عامة ـ مقصودها بعث حركة الأموال وتشجيع نمائها وحركتها ، وفي المقابل منع حبسها واكتنازها وتعطيلها في الاقتصاد ، كما في تشريع تحريم الربا في الإسلام ، وإن هذا السلوك السلبي من شأنه أن يعيق من حركة الأموال وأن يعطل من الأعمال بحسبه ، فمن هنا جاءت الزكاة لتحريك الأموال وبعث الأعمال .

وهذه القاعدة الفقهية المقاصدية تكشف النقاب عن أحد معالم الإعجاز التشريعي للزكاة في الإسلام ، حيث إن استراتيجية الإصلاح الاقتصادي للزكاة تمر عبر مرحلتين متعاقبتين في الواقع العملي في كل زمان ومكان : المرحلة الأولى هي : دعوة صاحب الثروة لأن يسعى بجد واجتهاد نحو توظيف أمواله في أفضل مجالات التوظيف وأوجه الاستثمار ، والتي تعود عليه وعلى منظمته وعلى الاقتصاد الكلي بالنماء والنفع ، وأفضل مجالات الاستثمار عائدا للشخص ولشركته وللمجتمع هي الأنشطة الإنتاجية ، وأما المرحلة الثانية فهي : وجوب إخراج الغني زكاة ماله ، ذلك أن الغني إذا أبى الاستجابة إلى داعي الشرع بالتوظيف الأمثل لأمواله ـ كما في المرحلة الأولى ـ فإنه يتعين عليه أن يؤدي زكاة أمواله إجباريا إذا توافرت شروط وجوب الزكاة فيها ، حيث يُلزِمُ الشرعُ الحكيمُ صاحبَ المال أن يخرج من ثروته نسبة قليلة جدا تعادل ربع العشر ( 2,5 ٪ ) فقط لا غير . وبهذا نفهم بوضوح تام أن الإسلام قد جعل في أموال الأغنياء حَقَّيْـن اثنين تجاه المجتمع ، وليس حقا واحدا كما قد يتبادر للذهن ، بحيث إذا أدى الغَنِيُّ أحَدَهُما سَقَطَ عنه الحقُّ الآخر ، والحقان هما : ( حق المجتمع بالتوظيف الإنتاجي ) و ( حق المجتمع بإخراج الزكاة ) ، وبيانهما كالتالي : الحق الأول في المال : حق الشرع والمجتمع بأن يوظف الغنيُّ أموالَه في التوظيف الإنتاجي ، ومعناه : أن الإسلام يوجه الغني نحو توظيف أمواله في التشغيل الإنتاجي والاستثمار الأمثل ، والذي من شأنه أن يبعث الحركة والنشاط في الاقتصاد كله ، و هو ما كان في مجال الإنتاج والتصنيع والإنشاء ونحوها من الأنشطة الإنتاجية النافعة ، ويلاحظ أن هذا الحق الأول يصاحب الغني في أمواله طيلة السنة المالية ، فهو حق موسع في زمانه ويمتد طيلة العام ما لم يحل عليه الحول ، فإذا حال الحول على المال فقد وجب فيه الحق الثاني . الحق الثاني في المال : حق الشرع والمجتمع بأن يُؤَدِّيَ الغني زكاةَ أمواله التي وظفها في مجالات ذات كفاءة إنتاجية أقل ، ومعناه : أن الغني إذا ترك القيام بالحق الأول ( التوظيف الإنتاجي ) فقد فعل أمرا جائزا له شرعا ، فإن ترك الحق الأول مما يسمح به الشرع ولا يؤاخِذُ عليه ، ولكنه إذا حال عليه الحول وعنده مال ذو كفاءة اقتصادية أقل كالنقد المجرد أو عروض التجارة فإن الشرع يوجب في تلك الأموال حقا آخر جديدا ، ألا وهو إخراج مقدار الزكاة الواجبة من أمواله لمستحقيها بالمجان . وبذلك ندرك أن من السطحية بمكان اعتقاد أن غرض الزكاة ينحصر في تحصيل أموال قليلة من الزكاة ليتم صرفها مجانا على الفقراء ، الأمر الذي يبدو وكأنه تكسيل للفقراء عن العمل وإقعاد لهم عن البذل والسعي ، كلا وإنما هذا الحق الشرعي يأتي تاليا للحق الشرعي الأول ، وهذا المعنى هو الراجح المقصود من قول رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم - : ( إن في المال حقا سوى الزكاة ) ، أما حق إخراج الزكاة فهو الحق الثاني وهو معلوم ، لكن الحديث ينبهنا إلى أنه يوجد حق آخر في المال غير إخراج الزكاة ، ألا وهو حق التوظيف الأمثل للمال فيما هو أنفع وأعم وأدوم في عائده الاقتصادي ، وهو ما اصطلحنا عليه ( حق التوظيف الإنتاجي ) ، والدليل على ثبوت هذا الحق الأول أن تحصيل الزكاة لا يجب ولا يتعين إلا بعد مرور سنة كاملة ، وهكذا لا يزال الشرع الحكيم يحفز صاحب المال ويدعوه طيلة العام إلى تحسين أساليب توظيف أمواله وتطوير سياساته الاستثمارية وتجويد سياساته التسويقية ، وذلك ليعم نفعُ المال عليه في ثروته ، وعلى منظمته وعلى الاقتصاد والمجتمع جميعا . والخلاصة : إن هذه القاعدة المقاصدية الجديدة تبين بوضوح مدى إعجاز تشريع الزكاة على المستويين الاقتصاديين الجزئي والكلي ، فكلما ارتفع مؤشر الزكاة الواجبة في المال فقد دل ذلك على تدني كفاءة توظيفه خلال السنة الماضية ، والعكس صحيح ، كلما تراجع مؤشر الزكاة الواجبة على المال دل ذلك على جودة وكفاءة توظيف ذلك المال خلال السنة الماضية ، فهذه العلاقة العكسية بين ( مقدار الزكاة الواجبة ) و ( كفاءة التوظيف الإنتاجي الأمثل ) تكشف عن أحد أعمق الأدوار الاقتصادية لفريضة الزكاة في الشريعة الإسلامية .